واقع القافية في الشعر العربي، وواقعها في نظام الخليل؛ وأمور أخرى
الباحث العروضي/ وصاحب علم عروض قضاعة: أبو الطيّب ياسر بن احمد القريـــــــني البلوي القُضاعي
كانت رؤية الخليل رحمه الله للقافية رؤية صحيحة في مجملها، لم يفسدها عليه سوى نظرته إليها نظرة لغوية خالصة. فليست القافية العربية حرف الرّوِي فقط، كما يرى بعضهم (العمدة، ج1/ 153)، وليست هي آخر كلمة من البيت انطلاقاً من مدلول كلمة (قافية) في اللغة على ما قال الأخفش (القوافي للأخفش، ص 3).
بل هي أكثر من ذلك، تماماً كما قال الخليل؛ فالقافية العربية مركبة من حروف وحركات بكيفية معيّنة هي ما يمنح القافية العربية موسيقى خاصة بها؛ هذا مع ضرورة انسجامها مع الوزن طبعاً [مع إيقاع القصيدة]. فلو كانت القافية حرف الروي فقط، لجاز للشاعر أن يجمع بين (ماثِلْ) و(مِثْلْ) و(تمثالُ) و(مثالُ) و(تمثيلْ) و(متَمثّلْ). وهو ما لا يجوز لاختلاف القافية مع اتفاق الروي [الذي هو حرف اللام].
فأي نعم أنّ القافية العربية يمكن أنْ توصف بأنها مؤلفة من حروف وحركات، لكن الخليل عرضها بطريقة جعلت علم العروض في واد والقافية في واد آخر، مع أنّ القافية لا انفصام لها عن وزن البيت. وهذا ما جعل من علم القافية في نظامه معقداً، مع أنه علم سهل في أصله كما سنرى في الكتاب الأم لعروض قضاعة [وفي كتاب المنتج الجاهز لعروض قضاعة المتاح على الانترنت، والذي سيصدر منه نسخة جديدة منقحة قريباً جداً بإذن الله].
وسنعرض أولاً أهم مصطلحات القافية المتقاطعة مع علم العَروض، من وجهة نظر الخليل، والتي هي صحيحة بالمجمل.
الرّوِي: لا بد لكل شعر عربي من قافية، ولا بد للقافية من روي تُبنى عليه قافية القصيدة، يلتزم الشاعر تكراره في نهاية أبيات القصيدة، وإليه تُنسب القصيدة، فيقال قصيدة رائية أو ميمية. فإذا غاب الروي غابت القافية وغاب معها استحقاق البيت بأن يوصف بكونه شعراً عربياً.
والروي قد يكون ساكناً فيُلتزم سكونه، فيسمّى (مُقَيَّد) عندئذ، ويقال معه [تَـقييد الروي]، وتسمّى قافيته التي وُجِد بها (قافية مقيّدة)، لأن رَوِيها قُـيّد عن الحركة بالسكون، وهذا من نحو روي الراء في: (نُــوْرْ – دارْ – عِيـْرْ – عابِرْ – قَبـْرْ – أسْفَرْ- نَصَرْ- نَصْرْ [وَارْبَعـْنْ]). وقد يكون الروي محركاً فيُلتزم تحريكه بنفس الحركة، ويقال له [إطلاق الروي]، ويسمّى (مُطْـلَق) عندئذ [روي مطلق]، لأنه أُطلِق بالحركة فلم يعد مقيّداً بالسكون، وتسمّى قافيته التي وُجِد بها (قافية مطلـقة)، وهذا من نحو: نُــوْرُ، نُــوْرُهْ، نُــوْرُهُ – دارُ، دارُهْ، دارُهُ – قَـبْـرُ – أسْفَرَ.
وإذا انتهت القافية برويّ مطلق ليس بعده هاء، فيجب إشباع حركة الروي، لأنه لا وقوف لقافية عربية على متحرك. فينتج عن إشباع حركة الروي حرف مدّ ساكن موافق لصوت الحركة المشبعة [أحد حروف واي: قاتِلُ: قاتِلُـوْ]. فلأجل ذلك لا يكون الروي حرف مد إلّا في حالات مخصوصة (من نحو: بُشرَى). ولا يكون الروي تنوين. ولا يعتبر الروي هو حرف الهاء أو الهمزة إلّا إذا سبقهما ساكن فيعتبران عندئذ أنهما الروي، من نحو (أعلاهُ - حاشاهُ، إعلاءُ - سَماءُ). إنما قد يلحق الروي الصحيح المطلق حرف الهاء كوصل له، فتوصف القافية بأنها (موصولة).
وقد تكون هذه الهاء ساكنة من نحو: (قائِلُهْ – قَولُهْ – قَتـْلُهْ – يقتُلُهْ)، أو قد تكون الهاء محركة من نحو: (قائِلُهُ – قَولُهُ – قَتْلُهُ – يقتُلُهُ). فإذا كانت الهاء محركة فلا بد حينها من إشباع حركتها لأنه لا وقوف لقافية عربية على متحرك، فينتج عن إشباع حركتها حرف مد ساكن موافق لصوت الحركة المشبعة (واي) [(قاتِلُهُ – قاتِلُهُوْ)، (قاتِلُها)، (قاتِـلِهِ- قاتِلِـهِـيْ)].
وهناك ملاحظات إضافية حول الروي ليست مجال بحثنا الآن. ولبعض ما ذكرناه أسماء تفصيلية عند القوم لا تُسمن ولا تُغني من جوع، بل فيها إرباك للذهن نحن في غنى عنها طالما أنّ وصف واقعها يغني عن مسمّياتها المربكة.
الرِّدْف [القافية المردوفة]: الردف هو أحد حروف المد الثلاثة الساكنة (واي)، أو حرفـيّ اللين، الواو والياء الساكنتين، والتي تقع قبل الروي مباشرة دون فاصل بينهما. ويجب التزام الردف كما يُلتزم الروي، لِما لذلك من تأثير مخرّب جداً لموسيقى القافية العربية فيما لو جرى الإخلال به.
ومثال الردف بالياء المدية من نحو: (قَتِيلْ، قَتِيلُ، قَتِيلُهْ، قَتِيلُهُ - صَهِيلُ)، ومثال الردف بالياء الليّنة: (ذَيْلْ، ذَيْلُ، ذَيْلُهْ، ذَيْلُهُ - سُهَيْلُ)، ومثال الردف بالواو المدّية: (طُولْ، طُولُ طُولُهْ، طُولُهُ – نُحُولُ)، ومثال الردف بالواو اللينة: (قَـوْلْ، قَـوْلُ، قَـوْلُهْ، قَـوْلُهُ- حَوْلُ – هَوْلُ)، أمّا مثال الردف بالألف التي لا تكون إلّا مدّية، فمن نحو: (قالْ، قالَ، قالَهْ، قالَهُ – مالَ - جِبالَ – إذلالا).
فإذا كان هكذا هو حال القافية برويّها مع الردف، فتوصف القافية بأنها مردوفة. ولا يمنع هذا الوصف من إضافة وصف آخر للروي من جهة المطلق والمقيّد، فتكون مردوفة مطلقة [قَتِيلُ، قَتِيلُهْ، قَتِيلُهُ]، أو تكون مردوفة مقيّدة [قَتِيلْ].
هذا مع ملاحظة أنه لا يجوز الجمع بين المد واللين في قصيدة، بل يُقتصر على أحدهما لِما في ذلك من تخريب لموسيقى القافية فيما لو حصل. ومع ملاحظة أنه إذا كان الردف بالياء جاز تعاقب الردف بالواو معها دون خلط المدية باللينة في القصيدة، أي أنّ التعاقب هو ضمن المدّيات مع بعضها، وضمن الليّنات مع بعضها. أمّا الألف المدية فلا تُعاقب أحداً ولا يعاقبها أحد.
التأسيس - القافية المؤسَّسَة [ألف التأسيس - دخيل التأسيس]: التأسيس ألف ساكنة يحجز بينها وبين حرف الروي حرف واحد فقط، يسمّونه الدخيل، من نحو: (قائِلْ، قائِلُ، قائِلُهْ، قائِلُهُ). فالألف كما ترى تظل ملتزمة مهما كان حال الروي، أهوَ مقيّد أم مطلق، موصول بهاء ساكنة أو محركة أم غير موصول بأحدها. أمّا الدخيل، وهو في هذا المثال حرف الهمزة؛ فتُلتزَم حركته لا حرفه كما رأيت، وهي هنا الكسرة، وغالباً ما تكون هي الكسرة في شعر العرب.
ففي القافية المؤسسة قد تجد هذه الكلمات في قصيدة واحدة في موضع القافية، ممثلة للقافية المؤسسة المقيدة [الفَواضِلْ – الصَّوَاهلْ- الذَّوابلْ- قائِلْ- أوائِلْ، ..الخ]. وعلى الأغلب تقع هذه المكونات التي قد تؤلف القافية المؤسسة في كلمة واحدة، إلّا في حالات معيّنة ليس هذا أوان بحثها.
فلا انفكاك في القافية المؤسسة بين ألف التأسيس والدخيل، ولا انفكاك بين الدخيل الذي هو حرف محرك، وبين الروي. فلا تكون الألف ألفُ تأسيس إلّا بوجود الدخيل، ولا يكون الدخيل دخيلاً إلّا بوجود ألف التأسيس وبعده الروي مباشرة. فهذه الكلمات (مثاكِيلُ – أضالِيلُ – تعالِيلُ- تماثِيلُ - أبابِيلُ- منادِيلُ- قنادِيلُ) لا تشير للقافية المؤسسة، لأنه حجز بين الألف فيها وبين الروي الذي هو اللام، حرفان وليس حرفاً واحداً. وعلى ذلك فالألف فيها هي ألفُ مد، فلا توصف بغير ذلك. والحرف المحرك الذي يتبع الألف فيها لا يسمّى (دخيل)، إنما هو فقط حرف محرك. فتلك الكلمات على الحقيقة، إنما هي مثال على القافية المردوفة بالياء.
فإذا كان هكذا هو حال القافية برويّها مع الدخيل وألف التأسيس، فتوصف بأنها قافية مؤسسة. ولا يمنع هذا الوصف للقافية بكونها مؤسسة، من إضافة وصف الروي لها من جهة المطلق والمقيّد، فتكون قافية مؤسسة مطلقة [قائِلُ، قائِلُهْ، قائِلُهُ]، أو تكون قافية مؤسسة مقيّدة.
القافية المُجرّدة: لو خلت القافية من الردف أو التأسيس، من نحو: (قَـلْبْ، قَـلْبُهْ، قَـلْبُها، قَـتْـلُهُ- مَـقْـتَـلُهُ)، حينها يأتي مصطلح المجرّد الضروري في نظام الخليل، ليحل هذا الإشكال، فيقال: (قافية مـجَرّدة)، أي مجرّدة من الردف والتأسيس كتعميم.
ولعلك قد لاحظت أنه لا علاقة لهذين المصطلحين، المطلق والمقيّد؛ بمفاتيح القافية الثلاثة في نظام الخليل (المجرّدة، المؤسسة، المردوفة)؛ فقد تكون القافية مردوفة ومطلقة في نفس الوقت، وقد تكون مردوفة ومقيّدة في نفس الوقت. ففي قولنا (قافية مقيّدة): فإلى جانب أنها مقيّدة، فهذا الوصف يتسع للمجرّدة والمردوفة والمؤسسة جميعاً. أمّا إذا لم تكن القافية مجرّدة، فلا مناص من احتوائها إمّا على الردف وإمّا على التأسيس. فلا وجود لقافية تجمع بين الردف والتأسيس في آنٍ معاً، فهذا ممتنع في اللغة وفي اللفظ.