جالت به أفكاره وطوّفت وبلغت شطآن معاناته الأخيرة، التي أحرقته بتداعياتها ولفحت وجهه بألمها، وجرّعته من بحر الحزن الآسن، جعلته يمارس دور الحاضر الغائب بين أهله وزائريه وأصدقائه ومحبيه.. لم يكن يحس نحوهم بضيق؛ فهو يعلم حبهم له وحنوّهم عليه.. لكن ضيقه إنما مصدره نفسه، وحالته التي هو عليها، إذا جال به فكره فيمن حوله تذكر أنه أقل منهم، بل هو ناقص نقصًا بيّناً يحس معه بالألم يصفعه ويلقيه من سريره إلى أعماق الحاجة والعجز.

جال شريط الماضي القريب في ذهنه سريعًا، فرآه كيف كان يروح ويجيء، وحيدًا لا يحتاج أن يعينه أحد، ولا أن يبلغه حاجته قائد، كان مركبه سليمًا ورهن إشارته، طالما سافر وعاد وزار أصدقاءه... ثم دار هذا الشريط حتى رآه قد كلّ وأدركته سنة الأيام، فغدا يحتاج إلى سائق يوصله ويأتي به، وكانت قدماه تعاني ألم الزمان وألم "السكري" الذي عقد معه صحبة إجبارية قديمة، بنودها العقار والحرمان والمنع والتحذير، حتى إذا استشرى هذا الصاحب، وتمكن منه فرض عليه الحصار بالقوة، فصار لا يكثر من الترحّل ولا يمشي إلاّ الهوينى.. وكذلك كان فتقاصر حتى لم يعد يبرح بيته إلاّ إلى ديار والديه يستروح ذكراهما، ويبكي شبابه وهو بين أيديهما، وكذلك الأيام.

ثم واصل شريط الأيام مسيره حتى رآه، وقد آلمته قدمه، وجُرحت بلا سبب يعرفه، واشتد ألمه حتى ما استطاع الحركة ولا السكون، فأوصله السائق إلى المشفى.. وإذ بلغت ذكرياته هذا الموضع ابتلع ريقه وكأنه الصبر أو الحنظل، وترقرقت في عينه دمعة انسابت فوق خده الذي خطّت فوقه الأيام تذكار السنين.. تذكّر حديث الطبيب الجاد ولهجته الثابتة:

"لا بد من بتر القدم حتى لا تنتشر (الغرغرينا) وتصل الساق بما فوقها يا عم".
حين سمع (الغرغرينا) فُجِع، كيف لا يُفجع وهو يعلم خطر لص الأعضاء ومتلف الأطراف، تراءى أمامه شبح مخيف ينهش الأقدام، طاف ببلده وببني عمه، فعاب الكثيرين وفتك بالآلاف، جعل الشديد طريحًا، والسليم معاقاً، والمُعِين مُعانًا.

ما كان يجرؤ على الحديث في هذا الموضوع، ولا يدور في هاجسه أنه سينزل به هذا الأمر، ما استطاع أن يجيب الطبيب إلى طلبه.. رفض وعاد إلى منزله بغير ما خرج به، عاد وسحابة من الكآبة تعلو محيّاه، رجع وقبة من الحزن قد ضربت أوتادها بباب قلبه فتركته ينزف دم سعادته وأنس أيامه الماضية.. عاد وقد اربدّ وجهه كَلَيْلة غاب عنها قمرها، وعلى عينيه دموع لا تلبث أن تنحدر لتخلفها أخرى.

لما سكن واضطجع على فراشه عادت إليه نفسه، وثاب إليه رشده الراحل، لجأ إلى واحد وطلب منه عونه ومشورته.. صلّى إلى ربه فأنست نفسه، وسكن ما كان يجد حتى هان ما يلقى في سبيل ما يؤمّل من الثواب.

عاد إلى الطبيب أشرحَ بالاً وأقلَّ حزنًا.. قبل وهو يمني نفسه بالصبر وفضيلته، حتى إذا عاين الأمر خذلته عينه فبكى وغسل قدمَه بدموعه وجففها بقلبه مودعًا من دون أن ينبس يأمل اللقاء في الغد الآتي.

لم تكن عودته إلى بيته عادية، فهو قد خرج تامًا وعاد ناقصًا عاجزًا، لم يبرح مقعده في السيارة فعاودته نوبة البكاء، وهو يرقب منزله الذي بناه منذ سنين طويلة، وراح وعاد إليه، كيف يعود إلى بيته بغير ما غادره به.. وطاف به المستقبل كما يتوقعه فأزعجه الهاجس ورفض النزول وأصر.. ثم تذكر أهل حيه ماذا سيقولون له؟ بماذا سيتحدثون عنه؟ سيقولون: مسكين فلان، أصبح عاجزًا، سينظرون إليه نظرة الشفقة والرحمة، كان يكره تلك النظرة، ويأنف منها، ولكن الزمن قد غلبه وطعنه فأثخن جراحه.

أراد أن يغادر ولكن: إلى أين؟ السائق يستحثه ويطلب منه الصبر.. لكنّ صوتًا دعاه من مكان عالٍ: حيّ على الفلاح.
** تمت **


وائل بن يوسف العريني
28/8/1428
10/09/2007