بسم الله الرحمن الرحيم


يصف بعض العلماء والنقاد العصر الحديث بأنه : ( عصر النقد ) ، وما ذاك إلا لبروز النقد واتساع مجاله وكثرة طُرُوقِه ، ولدخول النقد في علوم كثيرة ونشاطات متعددة بمفهومه الذي يعني التقويم والحكم وإظهار العلل وإبراز المحاسن والتطلع إلى الجيد واستشراف التطور وفق معايير وأسس معينة ، ورؤىً واضحة محددة .

والنقد الأدبي بوصفه أحد فروع النقد وأكثرها انتشاراً وسيراً في الآفاق كثر وتعددت مدارسه ، واختلفت فلسفاته ، حتى أصبحت المذاهب تتغير وتتبدل بمرور الزمن وتقادم العهد، وكأنها ألبسة وأمتعة تخلَقُ فتُبدَّل بغيرها .

ولعل من أسباب نشوء المذاهب النقدية والأدبية ما يلي:

1- الثورة بمفهومها الواسع ، وابتدأت الثورة بالثورة على الكنيسة وسيطرتها على الحياة ، ثم الثورة الصناعية ، حتى أصبح مصطلح ( ثورة ) يدل على كل ما هو حسن وجيد ، ومن هنا ثار الأدباء على النظام السائد في الأدب والنقد ، بهدف التجديد ومحو السابق إما لقدمه فقط ، أو لعدم إيفائه بتطلعات إنسان اليوم .
وقد كان لنجاح الثورات الكبرى كالثورة الصناعية أثر في إذكاء الروح الثائرة المتطلعة للخروج عن بوتقة القديم وكسر حاجزه ، والتخلص من منطلقاته وأفكاره التي كانت سائدة فترة من الزمن .

2- كما أن العداوة سبب آخر ولها ضلع ظاهر في نشوء المذاهب الأدبية والنقدية ، إذ كثيراً ما كان الدافع لنشوء مذهب ما الوقوف في وجه مذهب سابق له ، أو عداوة بين أقطاب المذاهب حتى يستقل آخر بمذهب جديد ويقرر له فلسفته ونظريته ، وما نشوء الرومانسية إلا وقوف في وجه الكلاسيكية التي محضت الأدب للغير ، فجاءت الرومانسية تنادي بأن يكون الأدب ذاتياً ينبع من النفس ويعالج قضاياها ويغوص في أعماقها ويعبر عنها . وما لبثت الرومانسية أن هوجمت من قبل البرناسة ( مذهب الفن للفن ) إذ جعلت الأدب – كما يرى أصحاب الفن للفن – وسيلة للتعبير عن الذات ، بينما الحق أنه غاية ومطلب في حد ذاته – في رأي أصحاب الفن للفن - ، وهكذا استمرت السنة مع التفكيكية مثلاً في ثورتها على البنيوية ، وهلم جرا .

3- ولعل من أبرز الأسباب وأكثرها إعانة على تعدد المذاهب وتطاحنها فيما بينها : سهولة النشر والطباعة ، وكثرة الكتاب والمؤلفين الذين ينطلقون في كتابات عقلية يقررون ويضعون الأسس للأدب من خلال نظرة قد لا تكون بالضرورة صحيحة، بل قد تكون ضرباً من الجنون والعبثية ، ثم ما تلبث تلك الرؤى والأفكار التنظيرية أن تخرج في كتاب ويترجم وتروج سوقه ، ثم يقرّض ويمدح أو يذم ، وهذا يقود إلى السبب التالي :

4- ما يمارس في الصحف من نفخ وتمجيد لمذاهب جديدة أو منطلقات نقدية وأدبية حديثة ، فحين تكثر الصحف ويتعدد المحررون والصحفيون وتحكمهم الأهواء و (الشللية) فما يقوله فلان – بالنظر إلى شخصه لا ما جاء به – هو الصواب والنظرة الجديدة المتوافقة مع المدنية أو الحضارة أو الحداثة أو غيرها من التسميات البراقة التي لا تنطوي على كبير معنى أو أثر . وهذا ساهم في نشر وانتشار مذاهب من يُعيد النظر فيها يجدها لا تستحق ما خُلع عليها وما وهبت من مدح وثناء وإشادة ، أو على الأقل لا تستحق بعضه .

5- صدور أصحاب المذاهب الأدبية عن فهم سقيم للأدب ، أو قل : عدم فهم الأدب على حقيقته عند أولائك الكتاب والنقاد – إن صحت التسمية - ، كما أن لضعف الدين أثر في ذلك الفهم السقيم والغفلة عن أهداف الأدب ومهامه في الحياة ، حتى نشأ جيل لا يرى ضرورة في أن يتصل الأديب بالمجتمع ، ولا يهم أن يُخاطب أدبه النخبة – إن فهموا أصلاً – دون غيرهم ، المهم أن يطبِّق الأديب تلك الفلسفة ويسير على نهجها ، حتى يصل الحال بالأدب إلى ألفاظ لا تعقد على معانٍ ، أو معانٍ لا تنطوي على فائدة ، أو فائدة تهدم ولا تبني وتحط ولا تسمو .


ثم إن لكل مذهب أدبي – مهما كان مصدره أو ادعاءات أصحابه – فلسفة وعقيدة يدور عليها ذلك المذهب ، ونظريات فكرية ينعقد عليها ذلك المنهج ، وإن ادعى من ادعى إلى ضرورة الفصل بين العقائد والأديان وبين الأدب ، وإن بكى من بكى أدلجة الأدب وتسييسه وضرورة البُعد عن تمييع الأدب في العلوم الأخرى دينية أو سياسية أو اجتماعية أو غيرها .

ثم إن سُلِّم لهم جدلاً إبقاء الأدب خلواً من العقائد والأديان والمذاهب ، لو سُلِّم لهم ذلك جدلاً فإن مقومات تلك المناهج ستنطوي على عقائد جديدة إلحادية عابثة ، دينها اللا دين ، وعقيدتها تمجيد الإنسان والوصول به إلى مراتب الألوهية – جل ربنا عن الشريك والمعين والصاحب والولد - .

إن المذاهب الأدبية في العصر الحاضر – وأهمها الحداثة وما بعدها – لتتخبط في ظلمات الحيرة والشك والاضطراب – إلا من رحم الله - ، يوم أن تخلت عن دينها وعبدت هواها ، وهدمت أي يقين وأي سلطة كانت سائدة ، حتى صار العقل وحده المحور في هذا الكون ، وهو الذي يملي على الإنسان علاقاته وتقديره للأشياء ، وغدا العقل – على ضعفه وقلة إدراكه – مشرِّعاً وساناً للقوانين التي يجب أن يسير عليها الإنسان في هذه الحياة ويأتمر بأمرها .

تلك هي سمات وأسباب نشوء المذاهب الأدبية ، التي ضاعت وضيعت معها الكثيرين ، ويريد أبناء الإسلام السير على منوالهم والخطو على طريقتهم ، مع أن الفارق شاسع ، والبون ظاهر بين عقيدتهم وعقيدتنا ، الحقيقة في الإسلام ظاهرة واضحة لا غموض فيها ولا شك ولا تدليس ، إن المسلم حين يُسأل عن الكون يُسأل عن معلوم لديه ، وحين تُطرق بحضرته مشكلات العصر وقضايا المجتمع يجد لها – بإذن الله – حلولاً ، لا يتردد في ذلك ولا يتلعثم ، تلك هي العقيدة الإسلامية الواضحة الصريحة ، فهل يعي أبنائنا ذلك ويتركوا تقليد الغرب ؟ ، وهل يلتفت الأدباء لمنهج الإسلام في الأدب ويسيروا وفق سنن الحياة التي شرعها الله لعباده؟، اللهم اكتب ذلك وأرنا من إخواننا أوبةً إلى سبيل الحق وطريق الفلاح .



وائل العريني
15/12/1427هـ