إدراك




مُذ كانت الأيام تمضي في حنينٍ،والمباني السامقات حضنَّ أسراب الحمامِ ،وتُطلّ من شرفةِ السماء شمسُ الإخاء لتُعانق الأرض بأشعتها الدافئة ، أيقنتُ أنّ هذه السنين كالمدِّ والجزرِ تغدو وتروح ،ويرحل جزء من عمرك معها، فلا يبقَ إلاّ زبدُ الخير وحسنُ الذكر الذي ينفعك ويؤازرك ، أدركتُ كم هي الحياةُ مرنة في تقبّلها وأخذها وعطائها واحتوائها ..


ومذ رأيتُ تلك الموجات اللواتي يتقافزن مرحًا ،ويتنافسن في ميدان البحر شغفًا وحبًّا للحياة ،وتشاغبهنّ النوارس فتلتقط
جواريهنّ من الأسماك وهي تراوغ أمواج البحر ،وأنا أرقبهم من فوقِ جسرٍ أبيض امتلأ بآثار العابرين ولم يزل نقيّ الأنفاس ، عبِق النسمات ، أدركتُ حينها كم هذه الحياة رحبة وكم تحتاجُ إلى مناورة ومغامرة وتفهّم وتضحيات ،فتعلمتُ منها فساحة الصدر وجمال الشِّعر وصدق الشعورِ.


وحينما أبصرتُ الفُلك وهو يشقُّ عباب البحر بحزمٍ وعزمٍ ، علمتُ أنّ هناك ليالٍ شديدة ،تطرق قلب المرء، وتحتاج منه إلى رباطة جأشٍ وقرارٍ سليم وحسن تصرّف .


كأنّ الشلال يُعطينا درسا ما ، إذا قابلنا بكامل عذوبتنا أيامًا مالحة ..
كيف نحافظ على مستوى هذه العذوبة ؟!
وكيف لاندع هذه المنغّصات المؤقّتة تؤثّر بنا؟!


فهي راحلة بملوحتها ومرارتها ،ونحن منفصلون عنها وراحلون بجمالنا وما حمّلناه من نفائسِ الزمان !


قد كانت مناظرُ الطبيعة في الحياة وما فيها من مشاهد صامتة أكبرُ معلّمٍ لي كلوحة الفراشات و النحل وهو يمتص الرحيق من الزهر وكأنه المعلم المعطاء الدال الناس على الخير.


فإنّي ممتنّةٌ جدًّا للخالق سبحانه ،الذي خلق فأبدع وجعل لنا السمع والبصر والجوارح لنتأمّل ونتعلّم ، وجعل قلوبنا حيّة وضمائرنا متوثّبة وعواطفنا وهّاجة تتأثّر فتتدفّق فتعتبرُ ، ثمّ تعمل وتنشر ما طاب من الفوائد وما لذّ من الحكايات وما وقَر في القلب من إيمان وما تفجّر من ينابيع الحِكم.


شكرا لله ثمّ شكرا لهذه الصديقة والمعلمة المخلصة التي مازلنا نخوض غمار أيامها ولياليها بتؤدة وصبر .


حمدًا لك ربي و شكرا أيتها الحياة .