(3)

لا يمكن إعادة هيكلة نظام الخليل بحيث يبقى مترابطاً شاملاً، دون فكرة الدائرة

من الملاحظ أنّ معظم المكلّفين بوضع منهج دراسي لمادة العَروض في المدارس، وحتى في الجامعات؛ لا يأتون على سيرة الدائرة نهائياً. بل أنّ معظم كتب العروض المنتشرة في المكتبات، لا تحفل بأمر الدائرة، وإن ذكَـرته فإنما تذكره من باب العلم بالشيء، باعتبارها مِلحَة عَروضية لا غير، أو مجرّد وسيلة لحصر بحور الشعر وحفظها على أحسن الأحوال.
أو أنهم يذكرونها تمهيداً منهم للهجوم على فكرتها، واتهامها بأنها سبب رئيس في صعوبة مادة العروض، فهماً وتدريساً؛ لدرجة دعت كثير منهم ليس فقط إلى تجاهلها، بل إلى الدعوة صراحةً إلى نبذها كلياً. فالتذمّر من تعقيد فكرة الدائرة في نظام الخليل، وعدم رؤيتهم لدور محسوس واضح لها فيه، علماً وتعلّما؛ وَلدّ لديهم شعوراً بعدم أهمية الدائرة الإيقاعية لأي نظام عروض عربي، وليس فقط لنظام الخليل.

لكن الحقيقة أنّ هناك فرقاً لا يجب أن يغيب عن الأذهان بهذا الشأن، وهو أنّ تدريس نظام الخليل بدون فكرة الدائرة شيء، وأنّ الدائرة ضرورة لازمة لأي نظام عروضي عربي شيء آخر. فلا يمكن إعادة هيكلة نظام الخليل بحيث يبقى مترابطاً شاملاً، دون فكرة الدائرة (ظن جازم).
فهناك فرق شاسع بين أن تستخدم معطيات العلم الجاهز، وبين أن تعرف سبب ترابطه وظهوره منجزاً للعلن. فكل من يريد أن يخرج على نظام الخليل أو على نظام قضاعة، فيؤسس علم عروض عربي جديد مترابط المكونات مثلهما؛ فلن يستقيم الأمر له دون فكرة الدائرة، وسيكون نصيب محاولته الإخفاق حتماً إذا تجاهل فكرة الدائرة (ظن عازم).

ويتملكني العجب أكثر من الباحثين العروضيين، وليس من المدرسين لمادة العروض الغير عروضيين؛ كيف أنهم لم يقدّروا بعد أهمية الدائرة لعلم عروض الشعر العربي بعامة. ويتملكني العجب أكثر من أولئك الثائرين على نظام الخليل بسبب تعقيده وكثرة مصطلحاته المنفِرة، أنهم بعد أن عـجزوا عن إيجاد نظام بديل مترابط محكم يسد مكانه، دعوا لطرح الدائرة من نظامه من باب تطويره أو تسهيله؛ مع أنّ الدائرة ليست السبب المباشر في تعقيد نظامه.
فمعنى دعواهم هذه، أنهم لم يتعمقوا في فهم النظام الثائرين عليه؛ إذ كيف تستقيم دعواهم هذه وهُم ما زالوا يستخدموا بعض أهم مخرجات دوائر نظام الخليل في كتبهم، فلا يستغنون عنها..! ففكرة الجزء المقتصر على وتد واحد وسببين على الأكثر، وفكرة التام، وفكرة المجزوء، وفكرة العروضة والضرب، وفكرة العلّة؛ هذه التي يستعملها كل متعلم لنظام الخليل، سواء ذُكرت بأسمائها التي صنعها الخليل لها، أو تم تجاهلها واكتفى العروضيّ بمُخرَجها النهائي كما يفعل عمر خلّوف وغيره؛ لكن القليل منهم من يعلم أنه لولا فكرة الدائرة لَما استقامت للخليل هذه الأفكار المهمة لترابط وشمولية نظامه العروضي، والتي يستعملها هؤلاء في كتبهم وشروحاتهم بمعزل عن فكرة الدائرة.

فإذا كان الجزء هو أُسّ نظام الخليل، فالدائرة هي روح نظامه بكل ما في الكلمة من معنى؛ ذلك أنّ الجزء ليس له شرعية خارج دوائر نظامه، إنما شرعيته تأتي منها كما قلنا مراراً وتكراراً. وبالتالي، فهدم فكرة الجزء إذا انفصل عن دوائر نظامه، سيغدو في منتهى السهولة؛ لكنهم لم يستغنوا عن فكرة الجزء ولا يستطيعون، طالما أنهم أسرى لأساسات نظام الخليل.

ودليل آخر على ذلك، أنّ هناك سلاسل كثيرة مشابهة لسلاسل شعر العرب القياسية، لكن فكرة الجزء ستعجز تماماً عن تجزيئها محافظة على شرط صحة الجزء في نظام الخليل (الشرط هو احتواء الجزء على وتد وسببين على الأكثر). بل أنّ هناك بعض السلاسل من داخل نظام الخليل، تختلف احتمالات تجزيئها بحسب كونها تامة، عنها فيما لو نزلت دون التمام [بمفهوم نظام الخليل عن التمام]، أي أنها محققة لشرط صحّة الجزء في كلا الطولين؛ فكيف سيبرّر الخليل الانحياز الصحيح لتجزيء هذه التي نزلت دون التمام، بل كيف سيبرّر دخول العلل والزحاف على جزء الضرب المعين دون سواه؛ إلّا بالاستناد على الدائرة. (4)

(4): أقوى مثال على ما قلناه في المتن أعلاه، هو الفرق بين البسيط التام والمجتث التام في نظام الخليل؛ فلهما نفس الترميز الصوتي من خلال الساكن والمتحرك، ونفس التنعيم [/0 /0 //0 - /0 //0 - /0 /0 //0 /0 : لا لا نعم، لا نعم، لا لا نعم، لا]، لكن الوتد المفروق الذي اكتسبه المجتث من دائرة المشتبه هو ما سيفرّق بينهما (مستفع لن المجتث)..! ولك في الكامل المجزوء المرفّل مثال آخر على ذلك، فعلة الترفيل تضيف سبباً خفيفاً إلى ما آخره وتد مجموع، وهي لم تصب سوى ضرب واحد في قالب واحد في بحر الكامل [[///0 //0 - ///0 //0 - /0: متَفاعلن متَفاعلاتن: نعمم نعم، نعمم نعم، لا]. فلو لم تكن هناك فكرة الدائرة، وفكرة المجزوء المتعلقة بها أيضاً؛ لأن فكرة المجزوء في نظامه منبثقة عن فكرة التمام المربوطة بالدائرة؛ لاضطر الخليل إلى القول بجزء تساعي كي يستطيع تأصيل هذا الضرب المرفل [متَفاعلاتن]. ولك في مخلع البسيط مثال آخر مهم على ذلك [/0 /0 //0 - /0 //0 - //0 /0 : لا لا نعم، لا نعم، نعم لا]؛ إذ بدا التجزيء الظاهري لهذه المصفوفة وكأنّ نهايتها هو الجزء (فعولن)، وهو ليس كذلك؛ فما هي إلّا (مستفعلن) المجزوءة المقطوعة المخبونة [مستفعلن فاعلن متفعلْ]، إنما نُقِلت متفعلْ إلى (فعولن) تسهيلاً للفظ فقط. فلا يمكن تبرير هذه الظواهر بحيث لا تتصادم مع بنية نظام الخليل فتضعفها، إلّا من خلال فكرة الدائرة في نظامه.

فلو لم تكن مصفوفات شعر العرب قد حوت تعدينات أنقصتها عن طول التام القياسي، فتنوّعت أجراسها (أعاريضها وضروبها)، وتعددت القوالب في البحر تبعاً لذلك. ولو لم تكن قد حوت تلاوين متعددة لكل جرس تقريباً (أي الزحاف المطبّق على الجرس)، فزاد ذلك من ما للبحر من قوالب؛ لَما احتاج الخليل إلى القول بالدوائر رغم كونها حقيقة.
فبعض البحور وردت أصلاً غير تامة عن العرب، وبعضها لم يرد إلّا كإيقاع ثانوي (مزاحِف)، نحو: عروضة الطويل التامة المقبوضة دائماً، أو عروضة البسيط التامة المخبونة دائماً. فلو لم يقل الخليل بالدوائر كي يعود الوتد الثانوي في هذا القالب من الطويل، إلى أصله الأولي كسببين خفيفين، أي تعود (مفاعلن: نعم نعم) المقبوضة إلى (مفاعيلن: نعم لا لا) الصحيحة السالمة كصورة أولية للطويل القياسي في نظامه. وتعود الفاصلة الصغرى في ضرب البسيط التام إلى أصلها الأولي كسبب خفيف ثم وتد مجموع، فتمثّل الجزء الخماسي (فاعلن) كصورة أولية للبسيط القياسي في نظامه. فإذا لم يفعل الخليل ذلك استنادً على الدائرة، فهل ستكون الفاصلة الصغرى وتداً جديداً في نظامه، طالما أنها هي الصورة الوحيدة التي وردت كعروضة عن العرب لقوالب البسيط التامة في نظامه..؟! أم أنّ الجزء يجوز أن يحتوي على وتدين مجموعين بدلالة ضرب الطويل التام في ذلك القالب المذكور، طالما أنها هي الصورة الوحيدة التي وردت كعروضة عن العرب لقوالب الطويل جميعها. بل كيف سيمكن حينها استخدام جملة الوصف الضرورية في نظامه لوصف قوالب البحور..؟

وعلى ما قلناه آنفا، فهكذا يظهر لنا أنّ حرص الخليل على الدفاع عن فكرة الجزء، يستلزم منه الحرص والدفاع عن فكرة الدائرة التي تؤمّن للجزء الحياة، وهذا ما فعله الخليل حقاً. فكل منهما يدعم شرعية الآخر في الظاهر، لكن الحقيقة أنّ الدائرة هي من تدعم شرعية الجزء في نظامه؛ فأجزاء نظامه لا شرعية لها خارج دوائر نظامه كما قلنا.
فالدائرة عند موجد هذا العلم، أي الخليل؛ هي ركيزة أساسية يُرجَع إليها في انضباط الوصف في نظامه، ودلالة إحكام وتماسك لنظامه. فالحفاظ عليها حفاظٌ على أسّ نظامه، أي فكرة الجزء. فمصطلحات (عروضة، ضرب، تام، مجزوء، منهوك)، التي لها دور رئيس في ترابط نظامه، مركبة على دوائر نظامه الهندسية المغلقة على بحورها التامة. فهذه المفاهيم في نظامه ليست وصفاً لعلل أو لأعاريض أو قوالب أو دوائر؛ بل هي منفذ ذكي في نظامه لوصف العلل والأعاريض بإحكام، كبديل عن أسماء بعض الأطوال المهمة للسلاسل، كطول السلسلة التامة وطول السلسلة المجزوءة. بما يؤدي في النهاية للحفاظ على ثبات فكرة الجزء في نظامه منعاً للمساس به، فبدون هذه المفاهيم المهمة ستنهار فكرة الجزء لُبّ نظامه، القائمة على الجزء الخماسي والسباعي حصراً.

ولو لم تكن الدائرة بهذه الأهمية لبُنيان نظام الخليل، فما ستكون حـجّته على غيره بشأن بعض تقريرات نظامه بدون فكرة الدائرة، طالما أنّ الـحُجة الأخرى المتبقية لديه هي حُجة السماع عن العرب، كحـجّة معتبرة يمكن الفصل بها بين متنازعين، خاصة في زمن الخليل الذي يقدّس أهله الشواهد، حتى لو كذبّها القياس المنضبط الشائع..؟ فكيف سيتم تبرير عروضة الطويل التي في الشواهد جائت فقط مقبوضه كما قلنا. لكن بواسطة حُجة الدائرة سيقول الخليل [ويُقال]: هكذا هي سلسلة الطويل القياسية في الدائرة كأصل نظري (بالقياس)، وهكذا هي كايقاع ثانوي مزاحف في الشعر كصورة عملية. فهذا التفريق بين الأصل النظري وبين الواقع الشعري، ضروري لاستقامة نظامه وشموليته، بل هو ضروري لإقفال هذه الثغرة الضخمة التي تهدد أُسّ النظام، أي فكرة الجزء وما بُني عليها.
فلو لم يقل الخليل بالدوائر لاحتاج إلى أضعاف المصطلحات الموجودة في نظامه، بل لأصبحت فكرة الجزء نفسها، التي هي لُبّ نظامه وأُسّه، في مهب الريح. فنظام الخليل اتصف بتماسك وشمولية واضحة لاستناده على الدائرة فقط. بغض النظر عن الوصف المعقد الذي طبع نظامه ككل بسبب ما ذكرناه في مقالة سابقة لنا. فهذا التعقيد لا يقدح في دقة الوصف وصحته لاستناده على ما ذكرنا. فدقة الوصف وصحته شيء، وأنّ الوصف معقّد أو سهل شيء آخر.

والخلاصة أنه بدون الدائرة لن يكتسب نظام الخليل صفة الشمولية والتماسك، بل أنّ الأخطر من ذلك هو أنّ أسس نظامه ستنهار كلياً بدونها (ظن جازم). وأنّ تعقيد نظام الخليل له أسباب متعددّة، فليست دوائر نظامه هي السبب الوحيد في تعقيد نظامه، بدليل أنّ معظم كتب العروض الحديثة تتجاهل دوائر نظام الخليل كما قلنا، أو على الأقل لا توليها عناية ذات بال؛ ومع ذلك، ما زال التعقيد والصعوبة صفة ملازمة لنظام الخليل.