قناع، وثلاثة وجوه!!
قصة بقلمي
1. المصعد
عرف بين زملائه في العمل. بوجهه المقطب الجبين، مزموم الشفتين ، جاحظ العينين.ارتبط ذلك كله باندفاعة حديثه، وحماسة كلماته. فهو ثقيل النصح،عالي النبرة،قاسي النقد. رغم صواب منطقه ،وحقيقة ما يقول. لكن الناس ليسوا بهذا الوضوح.وتلك الصراحة الموجعة.ولهذا يتحاشاه المحيطون، ويتجنبه الزملاء ، مخفين عنه أي قضية قد تدفعه إلى التدخل الجاف،أوأي مسألة قد تثير عنده رغبة التدخل بالانتقاد العنيف. تحاشيا لأي صدام متوقع معه.
غير أنني كنت الوحيد الذي يعرف هذا الزميل المكفهر الوجه ، وأشعر أن ما يكسو وجهه ، ما هو إلا قناع ، لا يعبر عن مدى طيبة قلبه ، وصفاء نيته، ورقة مشاعره؛ هو رفيق طفولتي حيث نشأنا سويا في حارة واحدة، ومنزل أثري قديم واحد ، وجمعتنا مقاعد الدراسة حتى الجامعة ،وذات التخصص التجاري.وكان متفوقا ، خبيرا في مجاله. غير أن ما يعيبه، كانت تلك السحنة العبوس، والاندفاع في التعبير عما هو حق وصحيح، دون مواربة أو مجاملة.
ولطالما نصحته كصاحب وفي، بأن يفك تكشيرته، غير أنه كان يأبى بشدة ، كان يشعر أن تلك التكشيرة، تعطيه مظهرا وقورا ،
وشكلا مهابا بين الناس. وكأنها قلعة حامية إياه من اقتراب السفهاء والمتطفلين، ومن يرغب في استباحة وجدانه الرقيق. فقد كان شاعرا مجيدا. غير أن خجله دائما ما كان يمنعه من البوح بما يكتب. نعم إنه صديق العمر، ذلك الهش، الرفيق، والعاطفي الحنون.
حاولت مساعدته كي يفرج عن نفسه من محبسها القاسي، ليس فقط من أجل أحبائه، بل من أجل ألا يكتسب مزيدا من العداوات بين الناس ، هو في غني عنها ، ناهيك عن عدم قدرته علي الجدال واللدد ،أوإشعال المعارك، والفوز بها.كان صريحا صادما.
&&&&
في مصعد البناية التي يقطن الطابق السابع فيها، كان الراكبون معه ثلاثة من الشباب النزق، وكان من الواضح أنهم غرباء،ليسوا من سكان البناية الشاهقة. أغلق الباب ، وبدأ الشباب في الضحك بلا سبب، وهم راحوا يعبثون بأزرار المصعد، إذا ضغط أحدهم على لوحة الأزرق بكاملها. معنى ذلك أن المصعد سيقف في كل طابق لدقيقة كاملة.يا للعبث، هتف في سره.
ولما زاد السخف من قبل أولئك المستهترين، تدخل صاحبنا بطريقته الرافضة لهذا المزاح الثفيل. وارتفع المصعد ، وارتفع معه الصياح حتى غدا صراخا وجلبة.
خرج صاحبي من المصعد ، معوج الفك، تتدلى من أنفه المدمى ،نظارته نصف مهشمة.
&&&&
2. نصيحة
كانت هيئته الحزينة مزرية حين لقيته ذلك الصباح، في بهو المصلحة التي يجمعنا فيه العمل المشترك.وحين صحبته إلى مكتبي، لأهدئ من روعه وثورته، تبعني في استسلام وهدوء، بلا اعتراض.
قص علي حكاية المصعد
وأقسمت عليه ألا يحزن قائلا:
لقد قمت بما يجب أن يقوم بما يمليه عليك ضميرك كمواطن صالح، وإنسان شريف.
ولمست من طرفي خفي، أن كان بإمكانه أن يسدي النصيحة بشيء من الابتسامة الودود.
وعليه أن يجرب أسلوبا أقل حدة ، فلن يخسر شيئا. ورغم عناده الظاهري، شعرت بأن لديه الرغبة في أن يغير شيئا من أسلوبه العصبي الجاف.
$$$$
3. ابتسامة
في طابور الزبائن نحو الكاشيرفي ذلك المتجر الكبير، وقف صاحبي بين من وقفوا حتى وصل إلى رأس الطابور ولما تأهب لوضع مشترواته أمام الكاشير، حتى تقدم شاب غضوب الوجه، عريضا طويلا ذو مظهر رياضي مبالغ فيه، تصحبه فتاة رائعة الحسن ، ترتدي ما يكشف عن فتنتها ،أكثر مما يستر. كان صاحبي قد اتخذ قراره منذ يومين أن يفك تكشيرته وأن يرسم ابتسامة باهتة على شفتيه عملا بنصيحتي الودودة.لكن من الواضح أن ابتسامته ربما قد اتسعت ، وبرقت عيناه ببريق غريب، وهو يرقب الرجل وفتاته وهما يتأهبان، لكسرالطابور وتجاوز دوره. وربما قد اتسعت حدقتا عينيه وتغيرت ابتسامته الباردة الى ابتسامة عاطفية حارة، مرحبا وسامحا لصاحبنا وفتاته أن يتجاوزاه الى الكاشير.
رمقته الفتاة بعين غامرة شاكرة ،غير أن الأمر لم يمر بارتياح وسلام ، على ذلك الثور الآدمي، رفبق الفتاة، فظن بصاحبي الظنون.
&&&&
خرج صاحبي من المتجر الكبير، معوج الفك، دامي الشفتين ، بإطار نظارة طبية بلا عدسات زجاجية ،حاملا نصف كارتون من البيض. تاركا خلفه شريطا من سائل فج الرائحة.
&&&&