العرب أشعر الأمم
يقول الجاحظ :
(والقضية التي لا أحتشم منها، ولا أهاب الخصومة فيها: أنّ عامّة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب، أشعر من عامّة شعراء الأمصار والقرى، من المولدة والنابتة. وليس ذلك بواجب لهم في كلّ ما قالوه.).
كلامه واضح ومعنى ليس لهم بواجب في كل ماقالوه أي يكون عند الشاعر العربي الأصل شعر غير جيد أو بعض الشعراء العرب ليس شعرهم جيد إذ أن حكمه هذا حكم عام فقد تسيد الشعر العربي في فترة من فتراته المولدون وهذا في أول الدولة العباسية وآخر شاعر فحل في الشعر العربي حسب رأي علماء الأزهر هو أحمد شوقي وهو شركسي .
هذا الكلام لايهم بل هو مقدمة للكلام المهم:
(إن الفرق بين المولّد والأعرابي: أنّ المولّد يقول بنشاطه وجمع باله الأبيات اللاحقة بأشعار أهل البدو، فإذا أمعن انحلّت قوّته، واضطرب كلامه.)
هذا كلام مهم جدا .
الشعراء المولدون هم الشعراء غير العرب خاصة الشعراء الذين من أصول فارسية إذ أنهم تزعموا الشعر العربي في فترة ما ومنهم أبونواس وبشار بن برد ومسلم بن الوليد لكن أشعرهم هو أبو نواس وهو من الفحول من جودة كثير من قصائده كأنه أعرابي وهو حامل لواء تجديد الشعر العربي الذي استمر بدويا أعرابيا حتى غيره المولدون وكان هذا التغيير منطقي من جهة التاريخ والمجتمع الذي هظم الثقافة الفارسية.
وهنا يتحدث الجاحظ عن الفرق بين الشاعر المولد والشاعر العربي الأعرابي لكنه في الحقيفة يتحدث عن أقدم نظرية في الشعر يقال أن أول من قالها هو أرسطو هي المحاكاة ومعناها أن يكون عند الإنسان استعداد فطري لقول الشعر فيقرأ شعر الشعراء الذين سبقوه ويحاكيهم أي يقلدهم ثم بعد زمن يضع بصمته على شعره أي يكون هناك خصوصية تميزه .
وهذا معناه أن الشعر العربي كان طفلا يوما ثم أضافت له الأجيال جيلا فجيل حتى استوى على سوقه في الشعر الذي نسميه الشعر الجاهلي .
يقول الجاحظ:
(أنّ المولّد يقول بنشاطه وجمع باله الأبيات اللاحقة بأشعار أهل البدو).
أي يقلد العرب البدو لأن الشعر استمر بدويا حتى أول الدولة العباسية.
(يقول بنشاطه وجمع باله)
هذه مهمة جدا أي أن الشاعر المولد ليس مطبوعا .
يقول بنشاطه وجمع باله:
لم يكرر العامل(... وبجمع باله)ولو كرره صار المعنى أنه مرة يقول بنشاطه ومرة يقول بجمع باله ويتضح ذلك في النفي:
لايقول بنشاطه وجمع باله
نفى قولا واحدا
لايقول بنشاطه ولا بجمع باله
نفى قولين لأن عندنا حرفا نفي فمعنى هذا أنه ينفي فعلين الثاني محذوف اعتمادا على الأول إذ أنه لاينفى فعل واحد بحرفي نفي .
والأصل في ذلك أنك لاتقول:
جاء زيد عمرو
الفعل يستطيع الوصول الى الفاعل الأول أما الفاعل الثاني فلايستطيع الوصول إليه وهنا تكمن مهمة حرف العطف تقول:
جاء زيد وعمرو
فتكون قد أوصلت الفعل الى الفاعل الثاني بحرف العطف وهذا من الأصول المهمة في معرفة معاني العطف.
إذاًّ الشاعر البدوي او العربي يقول الشعر بالطبع أي مطبوعا والشاعر المولد يقلده ويمشي على أثره بنشاطه أي حرفته وصنعته وجمع باله أي ماعرفه من شعر البدو الذي يقلده وهذا شبيه بشاعر يصف الطبيعة وهو يسكن في مدينة وشاعر يصف الطبيعة وهو يعيش فيها فالذي يعيش في الطبيعة ويصفها تجد في شعره معاني وصور دقيقة في الوصف لأن الشاعر ابن بيئته والذي يسكن في المدينة يصف الطبيعة من خلال دواوين الشعر فوصفه ليس فيه دقة يكون غنت الطيور ورقص الورد .
لكن تأمل في هذا الوصف لابن زيدون:
نَلهو بِما يَستَميلُ العَينَ مِن زَهَرٍ
جالَ النَدى فيهِ حَتّى مالَ أَعناقا

كَأَنَّ أَعيُنَهُ إِذ عايَنَت أَرَقي
بَكَت لِما بي فَجالَ الدَمعُ رَقراقا

وَردٌ تَأَلَّقَ في ضاحي مَنابِتِهِ
فَازدادَ مِنهُ الضُحى في العَينِ إِشراقا

سَرى يُنافِحُهُ نَيلوفَرٌ عَبِقٌ
وَسنانُ نَبَّهَ مِنهُ الصُبحُ أَحداقا

في الأبيات إشارات خفية لأنه قال في أولها:
إني ذكرتك بالزهراء مستاقا

حيث كان يتقابل مع ولادة محبوبته التي نافسه فيها ابن عبدوس فدبر له مكيدة أدت الى سجنه ثم لما خرج ذهب الى منطقة الزهراء فهاجت فؤاده ذكريات لقاءات ولادة فقال هذه القصيدة التي هي من لآلئ الشعر الأندلسي خاصة ومن أجمل قصائد الشعر العربي عامة.
نَلهو بِما يَستَميلُ العَينَ مِن زَهَرٍ
جالَ النَدى فيهِ حَتّى مالَ أَعناقا

أي هو وولادة يتمشيان وهما يتحدثان بين الورد الذي قد مالت أعناقه من تأثير حمله للندى.
المعنى الخفي مال أعناقا
في هذا البيت مال يحيي هذين العاشقين لأنه بعد ذلك سيقول مال إشفاقا
فهذا البيت فيه توطئة وتهيئة للمعنى الذي يليه مع إشارة الى معنى إعجاب الورد بهذين العاشقين لأنه أيام الوصال فكيف نقول أنه مال إشفاقا.

كَأَنَّ أَعيُنَهُ إِذ عايَنَت أَرَقي
بَكَت لِما بي فَجالَ الدَمعُ رَقراقا
ما مال إشفاقا الا وقد مال إعجابا أيام لقاءات المحبين واليوم رأى العاشق ليس معه معشوقه وحيدا حزينا قد عبث به الأرق فبكى الورد ومال إشفاقا .
هذا المعنى معنى الإشفاق يشير الى معنى الإعجاب لأن الورد كان يميل أعناقا من تأثير الندى لكن كلمة أعناقا استعارة وبما أنها استعارة فمعناها معنى المعنى وفيها صورة تشير الى تحية الملوك .
المهم أنه لايمكن أن ينافس شاعر يعيش في مدينة شاعرا أندلسيا في وصف الطبيعة لأن المقلَّد ليس مثل الأصل لأن الشاعر الذي الذي يسكن المدينة يقلد الأندلسيين بما يحفظ من شعر أما الشاعر الأندلسي فهو يصف بيئته فلا يقلد بل يصف مشاعره وانطباعاته عما يرى ويسمع .
(فإذا أمعن انحلّت قوّته، واضطرب كلامه)
الإمعان إما في القصيدة عن طريق استنزاف المعاني وإما في القصائد أي الأسلوب عن طريق استنزاف الأفكار بينما البدوي لاتستنزف معانيه ولاأفكاره دائما عنده جديد .
انحلت قوته:أي نشاطه وجمع باله أي أنه أوغل وتغلغل في التفاصيل فوصل الى موضع ولم يدر ماذا يقول بينما البدوي يتغلغل في التفاصيل فيجد مايقوله لأنه مطبوع وليس مصنوعا بالتقليد .
واظطرب كلامه:أي ظهر إنحلال قوته في اظطراب كلامه من جهة المعنى ومن جهة السبك لأن التكلف بدأ يتسرب الى كلامه .
ممكن أن نلاحظ ذلك في أشعارنا ونثرنا إذا بدأت قوية فإذا لم تستمر كذلك فمعناه أن الشاعر أو الكاتب قد انحلت قوته الشعرية او النثرية وهذا تفسير عجيب من شيخ علم الشعر لمسألة قد تحدثت عنها:
لماذا يظهر الإبداع في أول النص شعرا ونثرا ثم قد يقل بعد ذلك ؟
الجاحظ:انحلت قوته فاظطرب كلامه.
وأجبت بأن الشاعر والكاتب قد قال مافي نفسه أي الأهم والأصل ثم بدأ يتفرع للتفاصيل وأصل هذا أن يكون الشاعر والكاتب ليس عنده خطة أو فكرة يسير عليها يقول كذا فكذا فكذا حتى يصل الى المراد .
إذا كان عنده خطة مستحيل أن تنحل قوته ويظطرب كلامه الا إذا تعب وهو يكتب واستمر في الكتابة .
إذا كان الشاعر أو الكاتب يبوح فإنه يكون فيه شبه من بركان يلقي حممه حتى إذا أفرغ حممه سكن فينبغي أن يكون مابنفس الكاتب او الشاعر يساوي حجم الناس فإذا زاد حجم النص اظطرب الكلام .
أوما رأيتم بعض كتابنا يكون حجم بعض نصوصهم سطرين ويكون النص جميلا جدا يغازل القارئ ويتودد اليه بجماله إني لأجزم أنه لو أضاف على السطرين عدة أسطر لانحلت قوته واظطرب كلامه لأنه قد أفرغ مافي نفسه وبدأ يفكر ليستخرج معاني وبهذا تكلف شيئا ليس في نفسه لكن أحيانا قد ينجح.
والله أعلم