لما كتبت عن نظرية النظم بطريقة علمية بحتة لم تجذب النظرية جمهور بعض المنتديات فقررت أني أطبق النظرية على آيات من القرآن الكريم تتحدث عن أمور تجذب فضول الناس مثل المخلوقات الفضائية والأطباق الطائرة وهل هناك بشر قبل سيدنا آدم عليه السلام فلما صنعت ذلك اكتشفت أمرا عجيبا.
اللغة العربية حمالة أوجه يمكن أن تفهم المعنى بألف طريقة والقاعدة أن تفهم معنى الكلام على أصله ولا تفهمه عن طريق غير الأصل الا بسبب مثلا جملة رأيت أسدا تفهم أن الأسد حقيقة أما جملة رأيت أسدا يلقي قصيدته فتفهم أن الأسد مجاز لوجود قرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي وهي يلقي قصيدته لأن الأسد لايقول الشعر وهذا هو السبب الذي جعلك تعرف أن المعنى مجاز وليس حقيقة وهكذا .
لكن جملة رأيت أسدا في الحمام العمومي وهذا مثال مشهور في كتب البلاغة يمكن أن تفهمها حقيقة ويمكن أن تفهمها مجازا وهذا باعتبار أنه ليس هناك سياق يعين على معرفة ذلك .
المهم أني لما طبقت نظرية النظم على بعض آيات القرآن الكريم كنت أقرأ كلام المفسرين فوجدتهم يصرفون المعنى عن الأصل أحيانا بسبب أنهم لايتصورون أن المعنى على الأصل يمكن أن يكون مقصودا بسبب معلوماتهم او مايعتقدونه مثلا آية لو فهمنا المعنى على الأصل يكون هناك بشر قبل الإنسان الحالي وأن الإنسان الحالي نشأ منهم بكلام صريح وواضح لكن المفسر لما لم يكن يتصور هذا صرف المعنى عن الأصل .
أقصد أن سبب أنه لم بفهم المعنى على أصله هو أنه لايتصور أن يكون ذلك حقيقة وهذه أمثلة:
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16).
قال المفسر القرطبي(وجعل القمر فيهن نورا أي في سماء الدنيا ; كما يقال : أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم ; قاله الأخفش . قال ابن كيسان : إذا كان في إحداهن فهو فيهن . وقال قطرب : فيهن بمعنى معهن ; وقاله الكلبي . أي خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والأرض . وقال جلة أهل اللغة في قول امرئ القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
" في " بمعنى مع . النحاس : وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال : جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن)
صرفوا المعنى عن الأصل بأن قالوا أن(فيهن)بمعنى معهن وقول آخر انه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن ومعناه أنه مجاز مرسل علاقته الكلية أن تذكر الكل وتريد الجزء مثل أن تقول زيد يسكن في الرياض وهو يسكن في جزء من الرياض وليس كل الرياض.
أما أصل المعنى بدون تأويل فهو أن السماوات السبع الطباق في هذه الآية هي فوق الأرض ودون القمر لأن القمر فيهن بنوره وليس بذاته(وجعل القمر فيهن نورا)أي بلغة العلم اليوم هي طبقات الغلاف الجوي فماهو الدليل؟
الدليل أن الأرض لو انقشعت عنها طبقات الغلاف الجوي فإن القمر لن ينيرها لأن الغلاف الجوي يحجز الضوء ويجعله ينتشر وذلك مثل مصباح أو لمبة في غرفة فإنها تضي الغرفة وتجعل النور فيها منتشرا وليس فيها ظلام لكن نفس اللمبة في شارع مظلم فإن ضوأها لايكون تأثيره وإنارته كإنارته في الغرفة لأن الغرفة فيها حيطان أو جدران تحجز الصوء وتنشره في أرجاء الغرفة بينما الشارع مفتوح فيسير الضوء ولايحجزه شيء فلا تكون إضاءة اللمبة في الغرفة كإضاءتها في الشارع .
هل لاحظت عزيزي القارئ الذي قلته لك من أن المفسرين لم يتصوروا وجود طبقات الغلاف الجوي فصرفوا المعنى عن أصله وأولوه حتى تكون السبع سماوات هي السبع السماوات الكبرى.
قد تقول وكيف نقول بكلمة سماوات؟
هذا موضوع يتعلق بمعنى كلمة سماء وكلمة سماوات في القرآن الكريم وفي اللغة قال تعالى(ثم استوى الى السماء وهي دخان)ثم قال(فسواهن سبع سماوات)استخدام المفرد(سماء)يدل على الصفة واستخدام الجمع(سماوات)يدل على الذات لأن الذات هي التي تتعدد أما الصفة فلاتتعدد وكما أن السماء لها معاني مثل أمطرت السماء وقوله تعالى(وينزل لكم من السماء رزقا)أي مطرا ينبت الزرع الذي هو الرزق فكذلك سماوات قد يكون لها معاني ولبس هناك شيء بمنع ذلك .
قال تعالى(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)
(كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين)
المسألة النخوية هي ماهو معنى حرف الجر من في هذه الآية؟
المعنى الأصلي يكون البشر نشأوا من أصلاب أناس قبلهم .
يقول الطبري(ومعنى " مِنْ" في هذا الموضع التعقيب, كما يقال في الكلام: " أعطيتك من دينارك ثوبًا ", بمعنى: مكانَ الدينار ثوبًا, لا أن الثوب من الدينار بعضٌ, كذلك الذين خوطبوا بقوله: (كما أنشأكم)، لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين, ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنَّهم أنشئوا مكان خَلْقٍ خَلَف قوم آخرين قد هلكوا قبلهم).
يقصد مثل ان قوم عاد استخلفوا مكان قوم نوح عليه السلام(واذكروا إذ جعلكم خلتئف من بعد فوم نوح).
لاحظ قوله(لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين). هذا هو المعنى الأصلي لحرف الجر(من)أي ان هناك بشر قبل الإنسان الحالي نشأ منه الإنسان الحالي فلما لم يتصور الطبري هذا المعنى قال معنى حرف الجر(من)المعاقبة أي صرفه عن المعنى الأصلي حتى لايكونوا نشأوا من أصلاب تلك الذرية قوم آخرين ليسوا قومهم .
ركز في معنى الآية وهو أن الله سبحانه وتعالى في هذا النوع من الاستخلاف يذهب الاول ويبقي الثاني فيكون معنى(كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين)أنه قد أذهب القوم الآخرين فانقرضوا .
ولو كان المقصود بالقوم الآخرين مثل قوم عاد مكان قوم نوح فإن الله سبحانه وتعالى يقول(وجعلنا ذريته هم الباقين)فقوم عاد من ذرية نوح عليه السلام الذين لم ينقرضوا قال(يذهبكم)ولم يقل(يهلكم)أي الإنقراض دلالة الكلمة واضحة .
والله أعلم