هل أفعل.. لكن لماذا..؟
تحسسه أكثر وجهك في المرآة.. أنظر إليه بعمق... انظر إليه كيف يتعرى من كل شئ حوله.. كيف يغدو أحمراً فيُضيف الاحمرار بهاءً، ووسامةً عليه.. لماذا لا تخرج الآن؟ ككل زملائك الذين يقفون ساعات، وساعات أمام المرآة.. استعداداً للقاء أو لحفلة عرس شرقية؟ لماذا لا تخرج أنت إليهم...؟
لكني لم استعد.. فأنا منذ أسابيع مضت، أرى للتو وجهي في المرآة.. لا..لايمكنني أن أذهب، فهم كلهم قد استعدوا... أما أنا فلا.... هكذا دار الحوار في داخلي وأنا أمام المرآة.
أضع المرآة جانباً.. وأدخل غرفتي، وعبثاً أحاول أن أصمد أمام الظلمة.. أشعل الأنوار.. أخرج كتباً، وأوراقاً أبعثرها أمامي... أتصفح هذه، واقلب صفحات تلك، وأكتب هنا... حرفاً، وهناك كلمة...و...!
ما هذا السؤال الذي أراه يتحرك في أعماقي..؟ لماذا هذا الإلحاح على أن أعود إلى المرآة ثانية..؟ ينتفض وجهي كبركان أخمدته السنون.. أصوات حادة تداهمني، تُعريني.. تقيدني.. تلذعني.. أتوق غصباً الى النظر في وجهي.. أضعها المرآة جانباً، أتحسس وجهي.. بأصابعي المنهمكة من الكتابة.. أجده ناعماً.. ملمساً أتحسس جسدي كله أشعر برغبة فاضحة بالتعري.. أحاول.. أحاول.. أحاول.. لكن لا الوقت يداهمني، وأنا لم أكمل بعد قصيدتي الاخيرة عليَّ أن أكملها لأرسلها إلى صديقتي التي أحب أن أشركها في أمور قصائدي... أترك كل شئ، واوصد الباب أمام الرغبات، وأكتم حرقة الأسئلة، وأعود للقلم بين كتبي، وأوراقي المتناثرة هنا وهناك.. أسمع صوت الجرس.. أصوات.. خطوات أرجل تتجه نحو غرفتي يطرق الباب أحدهم.. أنهض أفتح الباب.. أهلاً أين كنت.. منذ أسابيع وأنا لم ألتقي بك..؟ تفضل…. رائحته الناعمة تُثير فيّ ما لم تُثيره عبق عطر المئات من الفتيات اللاتي كنت قد التقيتُ بهن.. وسامته، واهتمامه اللامحدود بأناقته تدخلني في لجة صراع ذاتِ مع ذاتي.. كلماته.. رقته المحسوسة تجعلني أفزعُ من قسوتي، وعزلتي.
لحظات سريعة مرت، وأنا أفكر به، وبما أنا فيه.. وهو.. يتكلم.. لا أظنني وعيتُ نصف ما تفوهت به شفتاه.. أستأذن إذاً جاءت كالصاعقة.. لكنك للتو أتيت، ولم نتكلم... قال في وقت آخر.. أراك مشغولاً كعادتك بالكتابة.. تذكرت نعم القصيدة لم اكملها بعد.. لا باس ساكون بانتظارك.
أوصله للباب الامامي، وقبل أن يودعني.. تذكرت لكنك لم تقل لي لماذا أتيت؟ إبتسم، وشعرت بأنه يسخر من بلادتي، وبرودتي، قال كنت أحب أن نخرج معاً لحفلة عرس يوم غد.. لكني اراك مشغولاً.. نعم تذكرت القصيدة لم أكملها.. عليَّ أكمالها قبل طلوع.. نهار الغد..... ساراك..!
أعود مسرعاً إلى الغرفة.. حاولت أن أمسك بالقلم.. لكن ما هذه الظنون؟.. ما هذه الافكار..؟ ما هذه الهواجس كلها تراود ذهني..؟ لماذا لااستطيع أن أقاومها..؟ أن أصدها.. إنها بالطبع لاذعة.. حارقة.
أعود إلى المرآة أتحسس أماكن الاحمرار في وجهي بينما يتمطى جرحٌ نازفٌ في أعماقي ويستيقظ... لم يدعوني أحد منذ شهور، بل منذ سنوات لحفلة عرس... المرآة تتلوى ألماً في يدي.. ترتعش يداي وأنا أنظر بحزن مَفعم بالاسى الى وجهي الذي يكاد يتمرد على الحياة لحزنه... تسقطُ المرآة.. يتناثر الى قطع هنا وهناك، أتنهد..أحاول جمعها... ألمحُ عنوة وجهي في قطعها المبعثرة.. أحاول أن أتفادى وجهي فيها.. وأهرب من نظرات عينيي.. تلك النظرات التي تكاد تقضُ عليَّ زمني.. نظرات مُفعمة بالشفقة.. لكني أكره الشفقة، ولا أريد حتى ظل رحمة من وجه أحد...! أحاول أن أنهي جمع قطع المرآة المبعثرة.. أجمعها، وارميها، واعود لكتبي.. لأوراقي.. أبحث عن القلم لا أجده.. أحاول عبثاً أن أكون كما أحب.. القلم نعم أين أضعتهُ..؟يعتريني الغضب من كل شئ… ماذا يحدث..؟ ماذا دهاني فأنا يوماً لم أكن هكذا..؟ أخرج من الغرفة.. أصعد الى السطح، والظلام قد خيم على كل شئ أنوار المدينة الموحشة تُفزعني، وكلماته الأخيرة عند الباب الأمامي تُثير فيّ الرغبة في كل شئ.. شئ ما.. أجهله... ألتفتُ حولي لا شئ سوى الظلام.. أعود إلى غرفتي، والسخرية من كل شئ تتلوى في أضلعي.. أحاول أن أجد القلم الضائع مني.. لكن عبثاً... فقد هرب مني.
ينتابني شعور غض بالنظر إلى وجهي أبحث.. أبحث عنها لكن ألم تنكسر المرآة تذكرت عليَّ أن أجد غيرها ابحث فأجدها.. أنظر هذه المرة بتمعن إلى وجهي، أحاول أن أبتسم فأزُيحُ شفتيّ قليلاً عن أسناني فيحتضر... بينهما ابتسامة.. وتهمس نفسي ماذا ينقصني لأكون مثله.. مثلهم...؟ ها أنا أيضاً أجيد لعبة الابتسامة، ولا أحتاج سوى للجرأة، ولمزيد من التمثيل لأكون مثل الجميع بارعاً.. ومحبوباً، وفاتناً.. لكن لماذا أريد أن أكون كذلك...؟ سؤال أحمق آخر يريد أن يعيدني إلى العزلة،... الوحدة... نعم الوحدة تذكرتها.. التي دائماً تعول في كياني، وتنزع منه كل شئ يمكنه أن أفكر باشراك حتى قطة بأموره.. الظلام يحاصرني، وتلك الرغبات الجامحة تتمطى في أحداقي.. الضجر.. الملل.. السأم تعوي في دمي كذئب أضاعه القطيع.
تكاد الأصوات الآتية من كل صوب تضيعني.. وجهي العاري.. نفسي العارية، جسدي المصلوب تحت رداء لا أجيد فهم ألوانه.. المدينة التعيسة دوامتها اللامبالية تمزقني.. و الأسئلة لا تكاد تفسح لي المجال حتى للصلاة من أجل أن أتخلص من هواجسي هذه... الصلاة لكن متى كنت الجأ إليها..!
ألم أقل لكم بأنها الوحدة التي تنزع مني كل شئ يمكنه أن يشاركني حتى ذاتي..الوقت يمضي بسرعة، وها هي ومضات الاشراقة الأولى تتضح، وتكاد تلامس خصلات شعري المجعد، وقسوة عيناي اللتان لم يغمض لهما جفن ليلة أمس.
المرآة لم تزل تتألم بين يدي.. أترنحُ قليلاً عنها... أضعها جانباً.. أتهوى على كرسي يتألم لوحدته.. أشعر بآلام فظيعة تمزق ساقي، وصداع فظيع يداهم رأسي بين الفينة والأخرى.. الأفكار.. الهواجس لا تلبث أن تعود لتوخز عقلي، وقلبي.. أنظر إلى المرآة الباكية، والتفت إلى كتبي، وأوراقي النائحة..إنه النهار، ولم أكمل القصيدة لكن أين قلمي.. أين أضعته..؟
زميلي قد يعود في أية لحظة ليذكرني بموعد اليوم.. حفلة العرس.. هل أتهيأ..؟ هل أذهب..؟ لكن القصيدة لم أكملها.. فكيف..؟ لا أعلم.. لم اعد أعرف ماذا يحصل لي يجب أن اقرر شيئاً.. لا يمكنني أن أبقى هكذا... مقيداً بين السماء والأرض..؟!
القصيدة.. حفلة العرس.. وجهي.. أناقتي.. الفزع… الهلع.. الوحدة.. العزلة..قلمي..لاشئ.. ماذا أفعل؟ لكن أين قلمي.. إنها المرآة هنا.. أحملها أتحسس من جديد وجهي.. أجبر شفتي على التباعد قليلاً.. أنظر الى قامتي.. يمكنني أن أكون مثل الجميع، وجه أبيض ناعم عينان بنيتان حزينتان.. ابتسامة ممثل بارع، رشاقة معهودة.... نعم يمكنني أن أكون نجماً في حفلة العرس! أضع المرآة جانباً، أدخل الحمام.. وأمام مرآة كبيرة.. أمام نفسي.. أمام اللاشئ.. أتعرى.. أفجعُ بما أرى.. جراح.. آثار حرق.. موت.. لاشئ... أخرج مسرعاً بعد أن نفضتني قطرات الماء خارجاً.. أحاول لف رداء حول جسدي المفجع بالجراح... وأعود للمرآة أغصب نفسي على الابتسامة وأترنم همساً لقد أصبحت مستعداً.. أسمع صوت الجرس.. تتقدم خطوات نحو غرفتي.. أفتح الباب قبل أن يصل.. أراهُ بوسامته، وابتسامته.. يجلس ينظر الى أوراقي.. كتبي المبعثرة.. ويلمح بعض أشلاء المرآة المكسورة.. يعتذر الحفلة تأجلت الى يوم الغد...! يهم بالرحيل.. يتجمد كل شئ أمامي.. أمد له يدي أصافحه أشعر بأن شئ ما يوخز أصابعي.. يقول لي ألا تترك قلمك لحظة أنظر الى يدي أرى القلم مصلوباً بين أصابعي.. يعرق وجهي، ويحمر.. تسقط رغباتي.. أحسها تتلوى تحت أضلعي عناكب موحشة لزجة السيقان... ويتهاوى النهار أمامي إلى ظلمة.. وأهوي الى.. فراشي وأنا أتشنج بلوعة.. مجروحة...!
ماذا أفعل. لكن لماذا أفعل.. شيئا.. فقط.. لا شئ.. لا بأس.. لن أعود.. لن أعود..؟
19-5-2000



رد مع اقتباس




و كثير من احترام !