عائدٌ إلى المنفى !
بقلمي
نادته نسماتُ السَّحر المعطرة بالشذى النَّديّ وبصوتٍ خافتٍ وتهافت ٍ لا يكادُ يُسمع .
من نافذةِ غرفتهِ البالية حلق ببصره متأملاً عَنان السماء ..
( يا الله .. ) وبدون استئذان تساقطت من مقلتيه دمعات .
بنبرةٍ خفيةٍ ودمعٍ شوَّاق : " كم أنا أشتاق ، آهٍ .. من لوعة الفراق وجوى الاشتياق " .
تفتحت الظلمةُ وبدت نسائمُ الفجرِ تزفُ قطيراتَ الندي وقد اعتراها الحياء ، فما كان منها إلا أن سجدت وجهَ الأرض ، وأخذت تسبح الباري .
وهجٌ من بعيد يصوبُ شعاعًا من ضياء يبرقُ تجاهه ، وصوتٌ من خلف الستار ليس بالغشيم ، يطرقُ مخيلته ، يهمسُ في أذنه :
" اقترب ، هيا اقترب ، اقترب " .
جسده يرتجف ، دموعٌ ورعشة ، ثمَّ رفع يديه قليلاً وهمَّ بمسحِ دمعاته بخفةٍ ورفق .
يتهافت : ( طال الانتظار ومازلتُ أنتظر ، تمادى الفراق حتى به اكتوت أضلعي ، اشتكت منه أنفاسي وتلونت به مشاعري ، آلامٌ وآمال وأطياف أحلام ، مشتاق ... ) .
طيف أخيه يداعب خياله ، يدغدغ أفكاره ، وذكراه التي لا تزال ملتصقة بذاكرته ..
... هذه المرة نظر إليه بنظرةٍ مختلفة .. حين قام وترجل أمام المرآة وأخذ يطيب ملابسه ، يريد أن يقنعها بأنه أنيق ، حيث أجبر شعره على الجلوس واعتدل ، نفخ صدره وابتسم ، ذهب فقبَّل تاجَ رأسِه ثمَّ توجه صوب البابِ وفتحه .
قال له : " يا عبد ... " وسرعان ما اعتذر صوت أمه عن المقاطعة فقالت : " أنتظرك وأذان المغرب نفطر سويا ، ولا تنسى أن غدًا موعد سفري " .
رفع حاجبيه قليلاً وقال : ( سأسافر قبلكِ أماه ) ثمَّ أهداها تلك الابتسامة التي اعتادت عليها وقد ارتسمت على شفتيه .
" إلى اللقاء " .. قالها ثمَّ همَّ بالخروج .
ولا زالت سلسلةٌ من الأحداث تطوف في خياله ضمن شريط الذكرى .
جرس الهاتف من جديد يقاطع صمت الجميع ، وجاء الخبر البعيد عن البال وبدوره يعتذر عنه لأمه عن عدم حضوره لتناول الفطور سويًا ، لعلَّ موعده في مكان آخر وأحبةٍ ينتظرون .
ارتفع صوتُ المآذن : الله أكبـر .. الله أكبـر
وماج الصوتُ في المكان .
فأوقظه ذلك الصوت من رحلته ، وعاد لنسمات الفجر من جديد .
وسريعًا تذكر صوت أخيه حين كان يقول : " يا أخي الفجر والقيام " .
فما كان منه إلا أن مدَّ يديه ورفع بصره إلى السماء ودعا الدعاء ، فتوضأ ، ثمَّ صلى الفجر حاضـــر .