محجوب بلول* شاعر السليقة
قراءة في ديوانه : « تقاسيم سفر« *
بقلم أحمد مكاوي
إذا كان الشعر يمتح من وجدان متحفز .. وشعور فوار .. وقريحة لا تعرف المستحيل ولا الأبواب المغلقة أمام الكلمة فتسمع المعنى الرائق في الشكل الجميل الممتع .. وعند محجوب هذا إضافة إلى هذا سليقة تعمل بجد من اجل اقتباس اللحظة الهاربة أيا كانت !! لذا نجد في شعره فلتات رائعة محورها ما يحيط به من طبيعة تماهى معها واستطاع من خلال روحه الشفافة الوصول إلى قلبها واحتضانها ..إنه بكل معنى الكلمة شاعر السليقة
إن جلسة الشاي والنخل والقباب والكثبان وسوف المدينة وقبابها ... كل هذا نجده يحفر في وجدانه فيخرج متشحا بأريج حرفه ليعانق قلوب من عشقوا هذا المكان .. ولا غرابة في ذلك لأن الصدق هو الطريق الذي سلكه الشاعر في الوصول إلى قلب الشعر والقارئ معا ...
ما يتميز به شعر محجوب بلول هو البساطة التي تحملك على جناحها إلى مملكة الجمال والصدق الذي يبلغ بك حدود الحب .. والعفوية التي تصنع صورها من حروف تغزل لك مقعدا بين النجوم..
هذا ما تجده في« تقاسيم سفر« ديوانه الجديد الذي صدر هذه السنة في أربع وسبعين صفحة من الحجم الصغير
أن شعر هذا الشاعر يمتح من سليقة لا تعرف التكلف ..ومن قلب لا يعرف الرياء ولا الزيف ولا الادعاء وهو كما قال عنه الشاعر الكبير السعيد المثردي: « عكست حروفه صدق مغناه ومعناه فشد الرحال إلى وطن لم تسلبه الفجيعة حقه في الحلم « (ص6) وهو فعلا ذلك «الذي رسم الوجع في مدونة تنتظر الشمس لتنشر زنابق بوحه أكاليل عز في جبين الوطن« (ص6) .
يرسم الديوان من الإهداء إلى آخر صفحة وجع الوطن وحلم الشاعر وبوح الحرف المعاند وصور الحضور الذي جعل من الشاعر شاهد مرحلة وعنوان صمود نقش بكلماته معناه واستقام على وتر يعزف تقاسيم السفر.
ومحجوب في الغلاف الأخير للديوان يحدد مفهومه للشعر ومعنى الحرف عنده حين يقول :
ما قيمة الأشعار إن لم ترتق
لجحيم شعب فوقه عبراتي
أشتاق أن أحكي حماما زاجلا
وأزف أحلاما من الصلوات
فالحرف في لغتي سلام حالم
أو غزوة تمشي مع الغزوات
فهو يرى أن الشعر تعبير عن الشعب وهديلا يغنيه وسلام حالم يحمل له الحب والوئام أو غزوة ترد عنه كيد المعتدي , ولا غرابة في هذا الفهم للشعر إذا عرفنا أن محجوب لا يرى الشعر ألا رسالة ووسيلة تحمل الهم وتبشر بالصباح وتنهض بالأمة !
أما الإهداء فأن النفس الديني يطغى عليه وهو ملاحظة سنلاحظها في أغلب القصائد حتى الغزلية منها ذلك أن الشاعر ابن بيئة محافظة وقد رضع لبن هذه البيئة وتشربها فكان شعره السليقي مأسورا بها ,يقول في الإهداء:
أيها الواحد وحد صفنا
قد أعم الذنب ما بين البيوت
لك أهدي كل أعمالي وقلبي
يا عظيم الذنب يا ذا الجبروت
كيف أحيا وأنا لا حول لي
باسمك اللهم أحيا وأموت (ص7)
و القارئ لهذه الأبيات يجد المعجم القرآني طاغيا على المقطوعة طغيانا جارفا.!
والديوان في قصائده الأربع والعشرين يحملنا على جناح الجمال إلى دخيلة الشاعر في حبه للوطن ودفاعه عن قضاياه وفي التغني بجماله وهذا ما نلاحظه بشكل لافت في القصائد : لا تلومي الجنوب (ص10) ولقاء البرج (ص15) هنا ولدت (ص17) حكاية لم تحكها شهرزاد (ص37) يا نجمة الشرق (ص59) كلماتي (ص61) كبر الجرح(ص69) .
ولعل أجملها عندي هي« هنا ولدت» حيث تنساب عفوية الشاعر في التماس ما يجول بنفسه اتجاه بلدته وما تحويه من جمال وما يربطه بها من مشاعر حركت الحرف عنده وولدت المعاني في بساطة يحسد عليها يقول :
هنا ولدت ولوح الله قد كتب
أن أعشق الرمل والكثبان والقببا
......
بالشعر نوقظ سحر النور في بلدي
والشاي يسكر عشق الرمل إن سكب
هذا النخيل غرسناه بأعيننا
ليحفظ الحب والأسماء و لنسبا
هو الذي عطر الدنيا بقامته
وقص للجيل عن أجدادنا حقبا (ص17-18)
لنصل للبيت الرائع في القصيدة وهو بيت القصيد عندما يقول :
تمسوفت صور في عمق أفئدة
على أياد هنا كم تصنع العجبا (ص18)
و تمسوفت من سوف التي تضاف لاسم الوادي حيث نقول :وادي سوف
ليختم القصيدة ببيت رائع هو:
يا قبة الخلد يا مهدي ويا سفري
ضاعت قلاعي ورملي من دمي شربا
أن هذه القصيدة هي بطاقة تعريف للشاعر الذي أحب بلدته الوادي بقبابها ورملها ونخلها وسيوفها (كثبان الرمل) فكانت على بساطتها جميلة شائقة تحملنا في بعض صورها لرعشة الشعر الحقيقي .
أما «لا تلومي الجنوب» فسمو في اللغة ورقي في الصور وتحليق رائع في سماوات الإبداع, والروعة في القصيدة تكمن في قوله :
وحديث العيون يصبح طيرا
ويماما إذا دعاه السطوع
أطعميني الدموع بالشعر بحرا
قمة الشعر يا حبيبي الدموع (ص11-12)
أما قصيدة سوزان والذاكرة الخائنة فهي تعبير بديع عن مشكلة الهوية التي بدأت تتآكل وأصبحت تأرق الكثير بحق وبغير حق ! ورغم ظاهر القصيدة الغزلي ألا أني استشف من ورائها دنيا من الصراع المأرق الذي يحمله الشاعر ويكفي قوله العنونة: والذاكرة الخائنة لينساح حقل التأويل أمامنا في شساعة لا تعرف الحدود, هي قصيدة تتألق في الديوان بلغة حالمة ورؤيا متجاوزة وصور منسوجة بقلم فنان ورؤيا حالم , يقول فيها:
تجري فيسرق ثوب الريح رقتها
لما استمالت لأوراقي ووشوشتي
كل المرايا تعاني من تأججها
دوما تزيد بآلاف على مئتي (ص20)
ويختمها بصورة رائعة في قوله :
فصغت بالحلم الشرقي مشكلة
فصرت أكبر من ذنبي ومشكلتي
حتى تعلقت في غيمات شارعنا
إن لم تخني عناويني وذاكرتي (ص20)
يزداد الديوان روعة كلما تحدث الشاعر عن نفسه وعن شعره وكأني به يقترب من الجمال كلما همس لنفسه مناجيا واتخذ عندها مجلسا ومد يده ممسحا عليها في رقة وحنو ... نلمس هذا في قصيدة اغتراب حين يقول فيها :
الشعر يكتب ما يريد لنفسه
بل يرسم الصفحات بالشعراء
ويجرني من أدمعي ومدامعي
ليحطني في حبكة الأسماء
كم مرة أبكي للأجل قصيدة
قد راودتني واحتمت بردائي
فإذا قميصي مزقته بهمسها
وقوامها ينشي على استحياء (ص24)
أو في قصيدة الشاعر حين يقول :
أنا قنديل يربي زيته
ويصلي كلما حل العذاب (ص67)
أما نرجسيته المحببة التي لا يكون الشاعر شاعرا إلا بها فقد جسدتها قصيدة هكذا قال أبي:
ولدت والفجر قد ألقى جدائله
وفي جبينك أصوات من القدر
فاهتزت الأرض والدنيا بكاملها
واحتارت الناس في إنذارك الخطر
وكنت تلعب والأشجار باسمة
على يديك ... على توقيعك القمري
وكم توقدت يوما قلت : يا أبتي
إني رأيت نجوما تقتفي أثري
فقلت لا تقصص الرؤيا فمعذرة
حتى ارتعشت بكاء رفقة الحجر
وهو هنا يتكلم بلسان أبيه لكنه الأكيد هو وحق له ذلك فهو الشاعر وهو الذي يعطي الحياة قيمتها والمعاني ألقها , فقد استطاع توظيف قصة سيدنا يوسف ورؤياه كأروع ما يكون التوظيف هنا وهل الشاعر إلا نبي يصنع بالكلمات مصائر وأن كانت محدودة الأجل لكنها باقية الذكر في الدنيا أما الآخرة فلا سلطان له عليها !
وفي توقيعة رائعة من ثلاثة أبيات يحملنا الشاعر للجمال ومتعه في قصيدته كبر الجرح :
كبر الجرح واستطال العميل
ورعود بكبريائي تجول
دثريني فأنني أتجلى
والتجلي على يديك جميل
واتركي النور يستثير يماما
وعلى نغمة الغرام يميل (ص69)
والروعة كل الروعة في البيت الأخير.
أيضا في الديوان قصائد من الشكل الحر رغم أن الغالب هو الشكل العمودي الذي ينسج على منواله الشاعر وهي القصائد :تحياتي (ص21) وحرية (ص25) ووطني والوسادة (ص29) واقتراحات(33) وسلاما يا أحبائي(ص43) .
إن سليقة الشاعر استطاعت أن تجعلني في كل قصائده أقف مليا أمام أبيات بعينها أعيد القراءة والاستمتاع بالصور وتشابك الحروف الذي صنع معنى حملني بعيدا خلف النشوة المولدة منها إنني أقرأ:
إنني أمشي على دمعي وحزني
فأرى الأسفار تطغى عن رحيلي (ص14)
إن الصورة في البيت رائعة تنساب في عفوية يرفدها في نفس القصيدة )جلسة شاي) قوله:
شكلي مني شراعا صارخا
ونهارا ليس يعنى بالأفول
فإذا نمت على جفني المعنى
سوف تأويك إلى قلبي خيولي (ص14 )
أما القصيدة :حكاية لم تحكها شهرزاد فإضافة للعنوان اللافت فإن القصيدة تحملنا على بحر البسيط وروي اللام المفتوحة إلى وجع ما زلنا نعانيه في الوطن الصغير والكبير وهو هم حمله طويلا محجوب يكفي أن نقرأ فيها :
يا موطنا العز لي في العز أسئلة
ولي غرابة موءود إذا سئلا
جئنا على نخلة سوفية علمت
أن الشوامخ تفدي الحب والأملا (ص37)
ليصل إلى :
أتيت يا غربة في عمق أزمنتي
أشخص البحر في عينيك والجبلا
يعاتب الظل أسيافي وصومعتي
فيهرب الطير من جناته وجلا
ما للأصالة ملقاة على حجر
تشكو حبيبا على الموجات ما اتصلا..؟
هل غيبته نجوم في سماء دمي
أم نام فوق رصيف الوقت...أم قتلا (ص38-39)
و(أسيافي) جمع سيف وهي لفظة سوفية بمعني كثبان
وهي صور لفنان يعزف على وتر اللغة كأروع ما يعزف فنان وهي قيمة من قيم السليقة التي يحملها الشاعر بين طياته نسج بها صوره التي تملأنا نشوة وسحرا!!
وهو يرصد صوره ورؤاه من بيئة عشقها يقول :
قد يضرب الورد عن إصدار رائحة
ويفقد الرشد من أقدامه السبلا
سعف النخيل على عرجونه قرؤوا
نبضا لبعضي وبعضي لم يزل ثملا (ص39)
أن محجوب بلول شاعر بالسليقة يزداد توهجا وإبداعا و ألقا من ديوان لآخر يزيد هذا الألق حضور مميز بيننا وطيبة كبيرة هو الشاب الذي يحمل حلم بحجم وطن وأمل بسعة كون ورؤيا تمتح من معين لا ينضب .
فهنيئا له الديوان وهنيئا لنا المتعة !!
· محجوب بلول :شاعر شاب من وادي سوف له :-...وسابعهم وجهها- قبل أن تنفذ الكلمات – تقاسيم سفر.
· تقاسيم سفر : مجموعة شعرية صدرت بمساهمة دار الثقافة بالوادي ومجموعة من الجمعيات الثقافية الفاعلة بالولاية ط 1 مطبعة مزوار 2009
سيدي عون : 15/06/2009