* الجميلة والسراب *
*الفصل الأول*

نشأت وفي داخلها حقيقة ثابتة . . أنها مميزة . . وكل ما حولها يؤكد أنها جميلة. . بل هي ملكة للفتنة والدلال . . هي عربية في ثوب غربي . . الشــــعرالأشقر ينسدل ناعماً كالحرير . . البشرة شفافة يظهر تحتها رونق الحيــاة . . العينـــان شهلاوان . . والأنف غربي صغير . . طويلة ذات جسم متناسق . . أبدع الخالق في خلقه . . كما أن عائلتها معروفة ولا ينقصها الثراء . .
ومنذ طفولتها وهي تتذكر تعليقات الأقرباء . . يا الله كم هي جميلة . . كأنها فرنسية . . بل هي تذكرني بالجمال الهولندي . . وكثير من مثل هذه التعليقات ..
وهكذا . . فقد نما في داخلها . . أنها شيء مميز . . لاتشبه قريناتها . . اللواتي انتبهن لذلك . . وعملن له حسابا . .
كبرت الصغيرة . . تجاوزت عامها الخامس عشر . . وهي ماتزال تعيش حلم الطفولة والجمال . . ولا ينغص حياتها شيء . .
بدأت النفس تثور على قيد البراءة . . وبدأ شعور جديد يغزو نفس الجميلة . . لا تجد لذلك مهرباً ولا تفسيرا . . فهذا نبيل . . جار الطفولة . . يكبرها بخمسة أعوام . . لم تتنبه قبل لجماله . . ولا لرجولته . . ولم تتابع أبداً أخباره . . بل كان ما يظهر على السطح هو أخبارها فقط . . لا أخبار غيرها . .
أما الآن . . فهي منذ الصباح تبحث عن نبيل . . هل فتح نافذة غرفته . . هل وصل أصحابه . . هل هم مجتمعون تحت البيت بضجيجهم المعهود . .
وصارت تتحين الفرص لتذهب إلى بيت جيرانها . . وتتحدث إلى أم نبيل أو إلى إحدى أخواته . . بعد أن كان ذلك قصراً على والدتها . . التي كانت تطلب منها الذهاب معها فتتمنع وتتحجج بألف حجة وحجة . . أما الآن . . فهي تذهب مع


والدتها أو وحدها لتستطلع الأخبار . . فجارها الآن يقدم امتحان الثانوية وليس في مدينتهم جامعة . . إذن فلابد له أن يسافر آخر الصيف ليلتحق بجامعته ، وكلما مر هذا الخاطر في ذهن الجميلة تكدرت . . وغضبت . . وعاودت البحث عن نبيل . . تستيقن من أخباره . . وتملي طرفها من رؤياه . .
كانت علاقة الجميلة نسرين بجارها نبيل . . علاقة طيبة متينة . . فهما جيران لطول العمر . . يعرفان عن بعضهما كل شيء . . في المناسبات القليلة التي اختليا فيها . . كان ينظر إليها كأنه يحلم . . ويطيل النظر . . وتكون هي سعيدة بذلك . . تنتظر أية كلمة منه . . كانا يتكلمان بأحاديث سطحية . . أحاديث مراهقة لها عندهم أشد القيمة . . وأعلى الأهمية . . بل لقد تجرأ في الصيف الماضي . . ونظر إليها ملياً . . وقال لها . . أنت جميلة جداً . . ثم قبلها على خدها . . وكانت أول قبلة غريبة . . تطبع على خدها . . أحست بها . . وارتفعت حرارتها . . ومكثت في غرفتها بعد ذلك ساعات طوال . . لاتريد أن يتفلت الحلم من يدها . . صارت تحب كل شيء . . ظهرت لها أزهار الحديقة لأول مرة . . وسمعت زقزقة الطيور لأول مرة . . داعبت أخاها الصغير متناسية تأففها لأول مرة . . ما أن يطلب منها شيئاً لتفعله حتى تقوم وتبدأ تنفيذه دون تبرم . . ابتسامتها لا تفارق محياها . . بجسدها تعيش في المنزل وبروحها تحلق في مكان آخر . .
ومرت الأيام الجميلة. . أيام الحلم والسهر . . وها هو نبيل . . الجار الحبيب . . يوشك أن يودع المدينة في القريب العاجل . .
وكيف تتحمل بعاده . . وهو حبها الوحيد . .
لم يتنبه الأهل إلى شيء . . بل كانوا ونسرين معهم . . أول المهنئين بنجاح نبيل في الثانوية . . وبمعدل مرتفع . . وسرت بين العائلتين همهمات بأن الأفضل لنبيل أن يدرس في دولة غربية يأخذ منها شهادة عالية في الطب . . تخوله أن يكون في بلده طبيباً مشهوراً . . والشهادة المحلية ولو أنها ليست سيئة . . ولكنها لا ترقى لمستوى الشهادة الأجنبية . . عوضاً عن فائدة السفر أيضاً لتقوية اللغة . . التي باتت شيئاً أساسياً في الحياة الحديثة . .


غاض قلب نسرين في صدرها . . وفهمت أن معنى ذلك هو الفراق . . وباتت مشوشة القلب . . لم تتمكن من التركيز في تفكيرها . . لم ترغب إلا بخلوة مع نبيل قبل سفره . . لتسمع منه مايسرها . .
وسنحت لها الفرصة . . اختلت بحبيبها . . ضمها بحنان . . وشرح لها . . أنه ذاهب لتحقيق مستقبله . . وماهي إلا سنوات قليلة ويعود حاملاً شهادة عظيمة في الطب . .
** سأشتاق إليك كثيراً . . وسوف أنتظر عودتك . .
مضى العام الأول بتثاقل شديد . . نبض الحياة عادي . . لا يغيره شيء . . أمل وحيد يبدو في الأفق . . أن يعود حبيب القلب في العطلة الصيفية . .
كانت نسرين تتنسم الأخبار من جيرانها . . عندما وصلت رسالة نبيل . . يعتذر فيها عن الحضور في الصيف بسبب دراسته . .
مر الصيف مملاً حارقاً . . طويلاً . . ومر بعده عام آخر . . وفي يوم وكانت عائدة إلى البيت . . وإذا بها تصادف صديقتها . . أخت نبيل . . وهي مشغولة وسعيدة وتحمل بين يديها أشياء وأشياء . .
** ما لك . . أراك مشغولة . . ما الحكاية . . !!!
** لدينا وليمة كبيرة للأقارب بسبب عودة نبيل في زيارة قصيرة . .
** ولكن متى سيعود ؟ ؟ ؟ . .
** سيعود ! ! لقد عاد منذ يومين . .

هرولت نسرين إلى غرفتها . . وانكمشت في مقعدها . . تلملم نفسها . . توقف تفكيرها . . لم تفهم ما حصل . . يعود نبيل منذ يومين . . وهي لا تدري إلا بالصدفة . .لماذا لم يتصل بها . .أليس هو جار الصبا . .أليس هو حبها الوحيد ..
وذهبت مع أهلها في اليوم التالي لتسلم عليه . . كان قد تغير . . كبر قليلاً . . صار له شاربان . . ويلبس ملابس أنيقة تعطيه مهابة . .
** أهلاً . . كيف حال جارتنا الجميلة . . وكيف هي أخبارك . .


شردت الجميلة ولم تحر جواباً . . أحلامها الوردية التي حلمت بها . . جاء الواقع وبددها . .
مرت الأيام . . وسافر نبيل . . ومرت السنون . . عامان آخران . . وعاد نبيل في زيارة سريعة . .
كانت نسرين قد كبرت . . ودخلت الجامعة في العاصمة . . ومع كل جمالها الرائع ونظرات المعجبين حولها . . فإنها لم تستطع أن تمحو الحب الأول من قلبها . .
وفي يوم . . وقبيل سفرها إلى مدينتها . .لمحت جارها ولمحها في نفس الوقت . . سعـادة خائفة جمعتها به . . دعاها لتناول القهوة في الفندق القريب . . وتحدث عن المستقبل . .مستقبله هو . .وكيف أن دراسة الطب تحتاج جهداً ومثابرة . . وكيف أن الاختصاص يحتاج إلى جدية في الاختيار والمتابعة بسبب كثرة المنافسة . . وسألته فجأة . . أنت تتكلم عن العمل والتحصيل العلمي فقط . . أما تفكر في الارتباط . .
كان السؤال شديد الوقع على نبيل . . الجار الحبيب . . الذي سكت وسهم قليلاً وأردف مؤكداً أنه لو فكر في أي ارتباط . .فلن يكون ذلك قبل إنهائه التخصص . .
واشتغل عقل نسرين سريعاً . . يحسب معنى هذا التصريح . . إنه يقصد أن ينهي اختصاصه أولاً . . ثم يفكر بعد ذلك في الارتباط . . أي ما لا يقل عن ست سنوات من الآن . . أكون قد جاوزت الخامسة والعشرين . .
كيف يمكن لذلك أن يحدث . . إنه ظلم كبير . . ماذا يقصد بكلامه . . أكاد لا أفهم شيئاً . .
شردت نسرين ثانية ببصرها وقلبها . .ولم تسمع نبيل وهو يهيئ نفسه للانصراف . . قال لها إلى اللقاء . . قالت له وكأن المتحدث شخصاً آخر . . وداعاً . .
تخرجت نسرين الجميلة . . وعادت إلى مدينتها . . وكثر خطابها . . وقبلت
للمرة الأولى أن تناقش أمر الخطاب مع والدتها . . حتى ترى ميزة كل خطيب . . ضغطت على قلبها "عليك يا قلب أن تنسى . . فأنت ما لك من حبيب" . . هكذا همست لها روحها . .

*يتبع*