دق الهاتف ، دقات كأنها صافرات إنذار ، أسرعت لنجدة من فيه ، من خبر سيقتله ..!!
- مرحباً .. منزل السيد محمود ..؟
- نعم .. خيراً..
- البقاء لله .. السيد محمود راح ضحية حادث إرهابي ..
لم تحملني قدماي ، كأن الخبر خنجرا ، قطع وتر تحملي وثباتي ، تظلم الدنيا تنطفي أنوارها في حجرات عمري ، أشعر بالظلام يحتل أركاني ..
أجلس .. شريط يمر أمامي ، تبكيني لقطاته ..
رأيته وهو يتقدم إليَّ طالباً يدي للسعادة ، يجلس بجواري في هودج عُرسنا ، كملك يعتلي عرش عمري ..
نظراته الملهوفة وخوفه عليَّ وأنا في رمق الولادة ، سهره معي بجوار ابني ، فرحتنا الممزوجة بنجاحهم ، همومنا التي حملها عنا ولم يشك يوماً ، طلباتنا التي كان يحملها قلبه طوال حياتنا ، حنانه - حبه - رعايته وشوقه لي ، مشاعري التي لم يهملها ، محاولاته الدائمة ليشعرني بأني لا زالت كما أنا شابة لم يلطخ لوحتي الزمن والكِبر...
تنفجر قطرات دمعي حارقة قبل أن تهوي من مساقط عيني ، لتولد طاقة الفراق وشحنات الألم والخوف من المجهول بعده ...
أتحامل على نفسي ، أهرع إلى مكان الحادث ، لأجد الدماء تروي كل بقعة في الشارع ، شعرت أن الشارع رُويَ بالدماء لينبت زهور الحزن نجنيها نحن أُسر الضحايا ، أنظر لكل قطرة دم قتيلة ، هل أنتِ ابنته..؟ ، هل سِلتِ من شرايينه التى يسرى فيها حبي ..؟؟
أبحث بين مخلفات الحادث .. لعلي أظفر بشيء يخصه ، نظارته - ساعته - فكل شيء يبقى منه .. هو رفيقي .. وذكراه التي ستبقى ..
ينقضي العزاء ، يوارى جثمانة الثَرى ، لكنه لم يوارَ ثَرى قلبي ، بل إن مكانه ، أندلعت نيران أخرى تحمل حقداً أعمى على كل من ساهم في مأساتي ..
أجمع أبنائي بأحضاني حتى أزيح يد الحزن التى تضغط على أعناقهم ..
أتتبع الأخبار ، منفذو الحادث أرهابيون ملتحون ، يتخذون الدين ستاراً لأعمالهم الإجرامية ..
تنبت داخل أعماقي بذرة سوداء لكل من له لحية ، كأنها كانت سبب وحدتي وشقائى بأولادي وحدي ، فكم حملهم وعر ثقيل ، وأنا التي عشت في كنف أبيهم مرفهة ، لا أعلم من دنياي إلا مايريني هو ..
إذا استقليت مواصلات وجلس إلى جواري شخص له لحية ، نهضت -كالمفزوعة ..
في عملي لو دخل أحدهم يطلب أن أنجز له شيئاً أرسله لموظف آخر ، كرهت رؤية كل المسلسلات التاريخية ، فرؤية اللحية تذكرني بفقد هنائي وسعادتي ..
تربطني وحدتي في ساقية الحياة ، فأدور لأروي أرض أولادي ، تكبر زهوري ، تُعطر جناني ..
أهنأ .. أنام .. أرى أنني أمتطي سحابة ، أمسك بذيل شعاع الشمس ، أرحل بعيداً ، تخلعني جاذبية أحزاني ، لأطير ، أطير ...
تأخذني سحابتي فوق هامة الدنيا ، أخاف أرتعد ، أرتجف ، ترتعش أوصالي ..!!
تتختفي الشمس تغيب ، لأجد شعاعها يذوب في يدى ، أنظر حولي فلا أجد سوى _ ثُريا _ مضيئة ، تكاد أنوارها تأخذ بالألباب والعقول ، أقتربت منها ، تعلقت بها ، أرفع رأسي عالياً ، لأجد نفسى أتدلى من لحية ..!!!