المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. سلطان الحريري
الأديب الحبيب مجدي محمود جعفر:
قرأت قصتك قبل الآن ، ولكنني لم أكتف بقراءة واحدة أو اثنتين ؛ لأنني أود الارتواء من معين أدب أراه في القمة ، ولأنني أود الغوص في أعماق قصتك ، وأعود بعدها معقبا.
ووجدتني أتذكر أمرا كنت أحرص عليه في محاضراتي مع طلابي ، وهو يتجسد في أن بعض القصص تعرض صورا صادقة من الحياة، على الرغم من أنها تصور حياة بشعة قاسية تشمئز منها النفوس ، وهي تخلف في نفس القارئ شيئا من ذلك كله ، نظرا لما تتسم به من الأمانة في العرض والدقة في التصوير، ومثل هذا الصدق نفتقده في تلك القصص التي يحاول كتّابها أن يتملقوا أذواق القراء، وأن يحققوا رغباتهم ومطالبهم، وذلك بأن يقدموا لهم قصصا ناعمة هنيئة ، تشيع البهجة في جوانبها، لكي يجدوا في قراءتها مخدرا ينسيهم همومهم ومتاعبهم في الحياة.
فالموضوع ليس كل شيء في القصة ؛ إذ الموضوعات ملقاة على قارعة الطريق ، يلتقطها الكاتب المبتدئ والكاتب الذي استحصدت ملكته ، وإنما المهم طريقة الكاتب في علاج موضوعه وتجليته.
وقصتك هذه اتسمت بالحيوية ، لما فيها من فكر عميق ، وهذه سمة واضحة فيها، فقد شعرت في أثناء قراءتها أنني أمام مفكر عميق التفكير، فضلا عن أنه قصصي بارع، ولذا فقد احتجت في أثناء قراءتها إلى شيء من التركيز والتأمل ، لأغوص في مراميها العميقة، فقد كانت فكرة القصة مطروقة ، ولكن طريقة معالجتها جعلتها تبدو وكأنها جديدة ، ففي رسم شخصية الجدة ما يبهر ، نتيجة لمقدرة كاتبها ، وما ذلك إلا لأن القارئ يحتاج إلى أن يقدم له كاتب القصة شخصية حية نابضة بالحياة ، وإلى مراقبة مشكلات الحياة التي تنقلها تلك الشخصية ، وقد كنت بارعا في رسم معالم شخصية الجدة ، رغم أنها لم تتكلم ولكن كل وصف لحركاتها وتنقلاتها وتفكيرها نقل لنا عالما نعيشه حقيقة ماثلة ، وكأنني بك تمسك بآلة تصوير من نوع فاخر تظهر الصورة بابعادها كلها ، وما ذلك إلا لتعمقك إلى قرار تجربتك القصصية ، ولمقدرتك على استغلال جميع أدوات الصناعة القصصية لتصوير تجربة كاملة ونابضة بالحياة، وبهذا فهي عصارة عقلية فذة، استطاعت أن تعي خلاصة تجربة الجدة الإنسانية ، وقدمتها لنا في ثوب بديع.
وأراني مشدودا إلى مبدأ التداعي الذي ألمحه في تصويرك لما كانت تفكر به الجده ، واستغلالك للتداعيات النفسية ، من مثل رؤية الجد ، وعصا الجد ، والطائر الذي كان يكبر كلما قاربت الجدة نهياتها ، وأجدها في العلاقة المميزة بين الجده وحفيدها ، وفي الإسقاطات التي توحي بالنهاية ، من مثل الكفن الذي صنعت منه زوجة الابن ستائرها ووووو
وكان للنهاية الرائعة المفتوحة دور في إبراز قوة القصة ، وفي احترام ذوق القارئ الذي له أن يعي ما الذي يجري دون أن نكشف له اللثام عنه.
ومما أثار إعجابي أنني أمام كاتب محايد يحاول أن ينحي نفسه جانبا عن الحوار ، وذلك ليترك لشخصياته أن تمثل حوادث القصة بحرية وانطلاق أمام ناظري القارئ ، ولذلك لم نجد كاتبنا يقحم نفسه بتعليق أو بتعقيب ، بل آثر أن يدع الشخصية تتكلم عن نفسها وتبث عواطفها من خلال أسلوب التداعي النفسي الذي أشرت إليه سابقا ، ومما لا شك فيه أن هذه الوسيلة أوثق صلة بالحياة ، وأصدق تعبيرا عن النفس الإنسانية.
أخي الحبيب : لو أردت الحديث عن قصتك بكل تفاصيلها الفنية لما وسعتني الصفحات ، ولكنني أحببت أن أشارك بقراءة متواضعة لها ، لعلها تضع النقاط على الحروف ، وتساهم في شكر كاتب مبدع نعتز بوجوده بيننا.
فأهلا بك في واحتك التي تسعد بأمثالك ، وإلى اللقاء في قصة أخرى ، وحرف جديد يخطه يراعك .
وإلى ذلك الحين : لك مني خالص الود والتثقدير ، ودم مبدعا.