حروف عكس النص
كلمة واحدة أوجدت العالم : كُن!
وكلمة واحدة تنهيه: مُت!
وأنا الواقف بين الكلمتين، ماذا أفعل؟!
ما تعوّدتُ إلا القطع في الأمور، فكيف أتصرّف إزاء كلمتين غائمتين ، لا موت فيهما ولا حياة: سلّم نفسك!
ويُسدل السّتار على المسرحيّة!
هكذا بكلّ بساطة .. يُختزل النصّ بكلمتين، هما المقدّمة والعُقدة والخاتمة.
قل له: سلّم نفسك، فيُسلّم نفسَه، وينتهي الفيلم!
كلّ مفردات الموت والعذاب أسهل من هاتين الكلمتين!
كيف سأطلبُ منهُ أن يُسلّم نفسه، أن يحمل روحه وحياته وذكرياته ويقدمها إليّ طائعًا مختارًا! بِمَ سأشعرُ، وكيف سأتصرّفُ؟
الموت أهون عليه وعليّ مِن هذا الطلب!
لَيْتهم أمروني بقصفِهِ من بعيد ؛ إذًا لحدّدتُ الهدف بدقّة، ولجلستُ أُدخّن الغليون بيدٍ ولَكبَستُ على الزرّ باليد الأخرى.. فتنتهي المسرحيّة بدون كلام ؛ مسرحيّة لا صوت ولا صورة ؛ لا لون ولا ظلال، لا ممثلين فيها ولا جمهور ، مسرحية لا أُشاهد فُصُولها ولا أَسمع منها حرفًا، مع أَنّني الكاتبُ والمُخرج والمُنتج والكومبارس في آن معا. تبدأ بكبسة زِرّ وتنتهي في لحظة واحدة إلى حطام وأشلاء.. مسرحيّة اسمها : مُت!
لكنهم أصدروا إليّ أمرا واضحا، لا لبس فيه:" نُريده حيًا! الأمور تحت السيطرة تماما .. المدينة محتلّة، والتجوّل ممنوع، والمعلومات مؤكّدة، سُرّبت إلينا من مصدر مُطّلع، رفض الكشف عن نفسه.. سَلّم واستلم.. فما عليك إلا تطويق المبنى بقاذفات الموت، والإمساك بمُكبّر الصوت، والنطق بكلمتين بسيطتين: سلّم نفسك.. فيُسلم نفسه ، وتنتهي مَهَمّتك؛ الآن تحرّك وبدون إبطاء!"
قيدٌ جديد يُضاف إلى الأصفاد والأغلال التي تخنق حريّتي.. بعضها سعيت إليه بظلفي ، وجلها أُرغمتُ عليه.. فأناخ عليّ الدهرُ بتناقضاته فكنْتُ:( ناوُرْم )!
أو على الأصح: الملازم (ناوُرْم)! رتبة عسكريّة تقدّمت على اسمي فصرتُ أَسيرُ وراءها ساهمًا كالمضبوع!
طرتُ من الفرح لحظة التخرّج في الكليّة العسكريّة، تطاولتُ كالطّاووس، وشدّ الزّهو قَسَماتي فأعاد إليّ بهجة الطفولة.. عُلّقت النجمة النحاسية على كتفي ،فزويتُ عيني لأكحلها ببريقٍ أخّاذ،جَلَتْهُ الشمس على صفحتها انتصارات سداسيّة، ورمزًا لمُلْكٍ صنَعَه حامِلُ المقلاع في غفلة من التاريخ على حساب (جالوت) ،أمام أسوار (أريحا).
ما كنت أعلم أنني ( سيزيف) هذا الزمان ، وأنني حملت بدل الصخرة صخرتين، واحدة احتلت كتفي الأيمن، والأخرى تربّعت فوق الأيسر!
في لحظة واحدة انقلبتُ رأسا على عقب! كنت جنديا عاديًا أُأمرُ فأطيعُ ! أُنَفّذُ ثم أَعترضُ!فصرتُ ملازمًا، أُنفّذُ ثم لا أَعترضُ، ( بلا تشبيه) كالحذاء بين مطرقة أل (فوق) وسندان أل(تحت)، مسؤول أمام ال (فوق )ومسؤول عن أل (تحت)، متّهم بالتّقصير على الدّوام،مكروه من الجهتين على حدّ سواء.
وجدتُني أقفُ كالمسمار، أُنشدُ قَسَمَ التخرّج، بأن أَحرُس شرفَ علمٍ أبيض، يُطوّقه نهران أزرقان، ونجمةٌ تسبح في الوسط، تشبه هاتين النجمتين اللتين تثقلان كاهلي.
وهاءنذا اللحظة.. أنوء تحت ستّ نجمات سداسيّات تتقاسم كتفيّ، وتختصر قائمةً تعج بإنجازات نقشتُها على أَمداء ،قيل إنّها حدود الوطن لذاك العام!
تنوعت المهام وتعدّدت بتعدّد الجبهات، ولهجات الأعداء وكنت أُدير المعارك من وراء الجُدُر لا يفارقني الغليون، ولا زِرّ التّحكُم عن بُعد.. لكنني الآن مُطَالَب بأمرٍ مختلف: اعتقال رَمْز! ماذا لو رفضتُ المَهمّة؟! وليكن ما يكون!
لقد بُسّط الأمرُ، وخُطّط له بإحكام..أَيّ مُلازم عاديّ يقدر على تنفيذه بسهولة، وسينال بعد نجاحه رتبة جديدة، ونجمة أخرى.. لِمَ أنا بالذات لهذه العمليّة؟!
ألأنّي آمرُ أَحد سجون (القدس)، وسأقود الرجل لينزل ضيفا على سجلاتي؟
أم لإجادتي اللغة العربية.. وسأتقن المناداة عليه عبر مُكبّر الصوت، ولن ألثغ عند نطق (الراء) في اسمه، وسيظن أنني أحد أبناء جِلْدته، ممّن يخدم جيشنا، لن يفاجأ بإتقاني البارع للعربية، كما فوجئ بي اللبنانيون يوم أقمنا الحواجز في شعابهم ، نُحصي عليهم الأنفاس وندقّ بينهم عطر منشـم!
هو لا يعرفُ مَن أنا ! ولا يدركُ أنّني في مثل سِنّه، وُلدتُ قبل نكْسَتِه بكمشةٍ من الأعوام، وأنّني درستُ الحقوق مثله تمامًا قبل التحاقي بالكليّة العسكرية.. الحقوق لا تُطعم خُبزا!
مِن أين له أن يعرف أنّني جالستُ الطلبة العرب في الجامعة العبريّة، وسعدتُ معهم في محاضرات اللغة العربية، وطربنا لعجائب لُغة الضّاد، تعطيك المعنى عينه أحيانا، حتى لو قرأت الجملة معكوسة من اليسار إلى اليمين: بلح تعلق تحت قلعة حلب!
لم أفهم سرّ استفسارهم عن تعلّق البلح تحت القلعة، وتساؤلهم: متى ينضج البلح؟!
لكن ما وعيته يومها أن اسمي: (ناورم) إذا قُرئ من اليسار إلى اليمين يصبح اسمًا عربيًا
فصيحًا!!
كانت المشاحنات الدموية تدور بيني وبين زملائي العرب، تبدأ لغوية وتنتهي سياسية ككل موضوع شرقيّ!
كانوا يصرّون على نبش القبور ، بحثا عن مجد عفا عليه الزمن!
هزئت بهم يومها: أنتم تجترّون التاريخ، وتُرغمون عقاربه على الدوران من اليمين إلى اليسار!
وتكتبون لُغتكم من اليمين إلى اليسار أيضا!أما علمتم بأن حركة الشعوب الحيّة كلغتهم تسير حسب عقارب الساعة من اليسار إلى اليمين؟!
ما هذه الأفكار التي تتجاذبني الآن؟ سأصل إلى ( رام الله) لمحاصرة غريمي بعد قليل..
هو ذكي جدا.. يوقن أنّ قول القوي فعلٌ، وأنّ رفْضَه تسليم نفسه سيقضي عليه و على عشرات المحاصرين معه..
سيَخرج إذًا.. وسأقف أمامه وجها لوجه ، كما وقف صديقي (أفاتسم يناريد) في (قصرنبا) أمام ذاك الشيخ، الذي قاوم مُعتقليه بسلاحه الفرديّ حتى نفدت منه الذّخيرة،فاقتاده (افاتسم يناريد) مخفورا على متن طوافة عسكريّة إلى (عسقلان) ،ضحك الشيخ المعتقَل آنذاك رغم غور الطعنة وقال لسجّانه:"لو عكستَ حروف اسمك ،فماذا ستقرأ؟!"
(أبتاه..أجز عني هذه الكأس) لسوف استجمع قواي، وأدوس مشاعري وأحاسيسي ثم أحمل مكبّر الصوت قائلا بالفم الملآن:سَلّم نفسك!
لن أتذكر لحظتها غير الأمر الصادر إليّ، وقَسَم التخرّج، وذاك الكرسي الذي لن يتّسع إلا لواحد مِنّا فقط! وسآمُرُه بالانبطاح أرضًا...لا ..لن أفعل ذلك.. الأمر العسكري محدد وجليّ:اعتقِلْه حيًا! لن أذهب في التفاصيل إلى أبعد من هذا.. إلا إذا شعرتُ بالخوف من شئ ما !
سأقيد يده اليسرى إلى ظهر حِزامِه، ثم أجمعُ يده اليمنى مع يُسراي في قيدٍ واحد، حتى لا يُفكّر في الفرار..وإلا عاجلته بسلاح يمناي.. ولن يهنأ لي بال حتى أغيّبه في دهاليز السجن.. مملكتي التي يحسدني عليها الغريب والقريب!
سيشكّ النظارة فينا.. سيتساءلون:مَنْ يُقيّد من؟!
سألقي به في غياهب حجرة يحرسها الفولاذ الأصمّ..
سأنظر إليه.. أراه خلف القضبان.. ويراني خلف القضبان.. أيّنا المسجون وأيّنا السجّان؟
كلانا يعيش داخل السجن!! أمْلكُ حريّة الدخول والخروج والنوم ومداعبة أطفالي .. هذا صحيح!!
ولكن أحدا لا يذكرني بخير أو حتى بشرّ، مجرد رقم في معادلة الحرب والقتل، بُرغيّ في آلة البطش يمكن الاستغناء عنه في أية لحظة!
أمّا هو .. فالكون يلهج بذكره ..يتابعه على الشاشات.. ينتظر انفتاح فمه ليسمع الكلمة والموقف الحازم!
لماذا اختاروني لهذه المهمة؟!
لحظة خروجه، ووقوفه أمامي ستكون أصعب اللحظات! سيسدّ الأفق بصدره العارم وهيبته الصاعقة.. ستخترقني نظرته المتفائلة.. لن أجرؤ على النظر إلى وجهه.. سأتذكر المظاهرات التي قادها بنفسها، وتحليلاته السياسية التي خلبت الباب متابعيه ، ونَصّبَتْه قائدًا شعبيًا.. مِن أعماق الجماهير يَصْعد، دون انتخابات أو تعيين، وإلى القلوب يعود بالحب والأمل!
ها هي (رام الله) أخيرا.. إن هي إلا دقائق معدودة، وأكون أمام المهمة..
ماذا يقال في مثل هذه المواقف؟!
لماذا لا يرنّ هاتفي المحمول الآن ،مُصدِرا إليّ أمرًا بالتراجع.. وإلغاء العملية؟!
أما من احتمالٍ بكذب المعلومات المتعلّقة بمكان وجوده؟!
ليت الواشي يكون كاذبا ،حتى أتخلّص من عنائي!
لماذا لم أقرأ كتابًا عنوانه: كيف تقبض على زعيم؟ وليكن مؤلّفه روسيًا مثلي.. ربما هو الذي دخل على (هتلر) للقبض عليه.. (الفوهرر) يومها،كفاه مؤونة الموقف وانتحر!
فهل سينتحر غريمي؟! ليته يفعل، قبل أن أُطلِق عقيرتي صارخًا: سَلّم نفسك!
لم يعجبني(موسوليني) على الإطلاق.. هرب متخفّيا كاللصوص فاغتاله الشّعب!
كان عليه أن يزنّر جسده بالديناميت ..ويبقى في قصره بكامل أناقته.. جاهزا للانفجار.. كان عليه أن يختار ميتة شريفة تُنهي حياته كبَطَل مقتنع بإنجازاته الوطنية....
ترى.. أيكون غريمي قد لغّم المبنى.. وهو ينتظر قدومنا ليهدم الهيكل عليه وعلينا..
التاريخ عندها سيعيد نفسه ، و لكن بصورة مقلوبة !
إذًا الأفضل أن أخاطبه من بعيد.. وأعطيه مهلة لتسليم نفسه.. وإلا قصفتُه من مكمني البعيد.. ستحدث مجزرة.. هو المسؤول عنها..!
سأعطي الأمان لرفاقه.. لن يصدّقني!
سأقول له بصوتٍ عالٍ: أُقسم بشرفي!
سيضحك ضحكة أسطورية!
لماذا لا يثق بي؟ لماذا لا يثق بي أحد؟
في (روسيا)لم يكن أحد يثق بنا رغم عيوننا الزرقاء وشعورنا الشقراء وانبثاقنا من تربة واحدة.
قبضوا خبزًا كثيرا لقاء ترحيلنا إلى(تل أبيب).. قالوا لنا: أرض الميعاد.. تاريخ الأجداد..
جنة عدن نسيمها الطّيب والبخور..أرضها ذهب وماؤها عسل.. أمن وأمان.. سِلم وحياة!!
لو كنتُ أَعلم الغيب لاخترتُ الواقع المُرّ.. هناك في (روسيا) ولما ذقتُ الأمَرّين.. هنا!!
(لو أني أعلم خاتمتي،ما كنت بدأت)
إذا كنتُ اليوم أُعاني.. فما مصير أولادي غدًا؟! سأفكر في الإجابة عن هذا السؤال فيما بعد!
مهمتي ستبدأ اللحظة.. فقد وصلنا.. !
طوِّقوا المبنى واتركوا بينكم و بينه مسافة انفجار!
هاأنا أحمل مُكبّر الصوت.. أحاولُ النّطق..
قلبي يرتجف ويدي ترتجف معه!
يخرج صوتي خافتا مهترئا متلجلجا كصوت مصابٍ بمرض (الباركنسون)..
لا أتحمّلُ الموقف.. القشعريرة تبلل جبهتي بالعرق.. أتراجع إلى الخلف..
ينتزع مِنّي أحد جنودي مُكبّر الصوت و يدير وجهه صوب المبنى زاعقا:"سلّم نفسك-المبنى محاصر..سأعدّ للعشرة-وإلا دُفنْتَ تحت الأنقاض ومن معك!"
واحد.. اثنان.. سيسود صمت مطبق! وستخشع الآذان، وتنفتح العيون .
ثلاثة.. أربعة.. ستتوقف الأرض عن الدوران!
خمسة .. ستة..ستتهافت وسائل الإعلام لرصد الحدث!
سبعة.. ثمانية.. سيأخذ الجنود وضع استعداد، متأهّبين لإطلاق النّار!
تسعة... ويخرج الرجل شامخا، كالطّود، أعزل وحيدا!
يأمره جنودي بالتقدّم على مهل.. يتأكدون من خلوّ خصره من حزامٍ ناسف!
يطوّقون كلّ خليّة فيه.. ويقيّدون يديه خلف ظهره!
ينظر إليّ قبل ركوب السيارة العسكرية.. فيرى المشهد عينه!!
الجنود يقودونني مقيّدا إلى سيارة عسكرية أخرى .
سأُحشَر معه في سجنٍ، كنتُ المُشرف عليه قبل ساعاتٍ فقط!
هو سيحاكَم بتهمة الإرهاب! وأنا بدعوى رفض تأدية مَهَمّة عسكرية!
سيجِد لَهُ أُمّا تبكيه! وعشرات المحامين يتقاطرون متبرّعين للدفاع عنه!
أما أنا فسأنتحب طويلا طويلا في عُزلتي.. حتى أُعلن توبتي النصوح،واستعدادي لتنفيذ أمرٍ جديد.. لا أجرؤ على عكس حروفه!!