مخاطر الغليان الشعبي ضد السياسات العربية
بغض النظر عمّا وقع لوزير الخارجية المصري أحمد ماهر أثناء محاولته زيارة المسجد الأقصى يوم 22/12/2003م، ينبغي أن نثبّت ابتداء رفض وسيلة الاعتداء، والضرب، والشتيمة، تجاه المسؤولين السياسيين وغيرهم، حتى ولو كانوا من صنف من يستحق عقوبة الإعدام لو وجدت محاسبة ومحاكمة وقضاء نزيه، فالرفض صادر عن موقف مبدئي، مثل الموقف المبدئي الرافض قطعا لما يمارسه جلاوزة كثير من المسؤولين ضربا وإهانة وتعذيبا للمواطنين في أقبية المخابرات وزنازن "التحقيقات" في السجون.
الاعتداء مرفوض رغم احتقان الغضب
الاعتداء على أي إنسان عمل مرفوض، والاعتداء على مسؤول سياسي عربي في كلّ وقت وفي زمننا السياسي الرديء الراهن مرفوض أيضا، فكيف إذا وقع هذا الاعتداء في حرمة المسجد الأقصى، أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين!..
هذه وسيلة مرفوضة بحدّ ذاتها، كما أنّ وسائل "استغلال الحدث" لتصوير مغزاه على غير حقيقته مرفوضة، كالقول إنّ هذا عدوان على مصر وكرامة مصر، فشعب مصر هو الذي يمثل مصر وكرامة مصر، أمّا أحمد ماهر فيمثل لحقبة معيّنة من الزمن "سياسة مصر"، ومن يرفضه إنّما يرفض "السياسة" التي يتبعها هو ويتبعها الحكم الراهن في مصر، ومن يشتمه -متجاوزا بذلك الأدب والأخلاق- لا يشتم شخصه كإنسان، ولا مصر كبلد مسلم عربي عريق، بشعبه وتاريخه وانتمائه إلى هذه الأمّة، إنّما يشتم ما تؤدّي إليه السياسة الرسمية الحالية بمصر.. وبالمنطقة المرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياسة المصرية، نظرا إلى حجم مصر ومكانتها وقدراتها.
لا يفيد أيضا الزعم القائل إنّ هؤلاء الذين تجاوزوا الحدود ووصلوا إلى مستوى الشتيمة فالتدافع الذي أدّى إلى إصابة أحمد ماهر وإغمائه عند مدخل حرم المسجد الاقصى، هم مجرّد قلة من "الرعاع"، لا يُؤبه بهم، ولا يهمّ موقفهم، ولا ينبغي السماع لما ارادوا التعبير عنه.. فالاستمرار على هذا التعامل مع "الشعوب" يزيد خطورة الفجوة الهائلة الفاصلة بين الأنظمة والشعوب، ويؤدّي إلى مثل تلك الحوادث المرفوضة.
الوسيلة هي المرفوضة وليس حقيقة أنّ المشاعر ملتهبة، وأنّ الغضب بلغ مرحلة خطيرة من الاحتقان تجاه ساسة بلادنا العربية والإسلامية وهم يساهمون بأنفسهم في إضاعة البقية الباقية من الإحساس بالكرامة تجاه الصلف الإسرائيلي والعنجهية الأمريكية..
الطريق إلى استعادة ثقة الشعوب
ولهذا فبعيدا عن أسلوب الإدانة والاتهامات، والأخذ والردّ في هذا الإطار، وبعيدا عن هذه الحادثة بحدّ ذاتها، من الجدير بنا أن نتأمّل في مغزاها العميق على ضوء ما تشهده بلادنا من تطوّرات بالغة الخطورة، في فلسطين وسواها، وعلى ضوء السياسات العربية الراهنة، وعلى ضوء ما وصلت إليه العلاقة بين الشعوب والحكام من التردّي، لنتساءل، إلى أين يمكن أن تصل بنا هذه الدوّامة إذا استمرّ ذلك كلّه، ونحن نسقط من هاوية إلى أخرى أشدّ عمقا واتساعا وخطرا؟..
إلى متى يستمرّ تجاهل المسؤولين عن صناعة القرار في بلادنا، المتشبّثين بكراسي السلطة بأي ثمن، لحقيقة أنّ الشعوب فقدت الثقة بهم، وأصبحت تتمنّى زوالهم، ويكاد فريق منها يقبل حتّى بخيانة الخائنين وهم يستعينون بأعداء بلادهم على بعضهم بعضا، إذا كان في تلك الاستعانة بصيص أمل في سقوط حكم استبدادي، رغم أنّ الاحتلال يعني استبدادا أكبر وأخطر؟..
هل يتصوّرون أنّ سياسات الارتماء أمام أعداء بلادهم خافية على الشعوب؟..
هل يتوهّمون حقّا أنّ هذه الشعوب لم تبلغ سنّ الرشد فعلا ويمكن خداعها بمجرّد نشر المزاعم أنّ ما يصنعونه في صالحها، بينما ترى الشعوب رأي العين كيف يجري تسليم البلاد وثرواتها وتسليم الشعوب وقضاياها، لأعدى أعدائها، بل وترى رأي العين كيف تتهاوى الأنظمة كأن لم تكن بعد الاستغناء عن خدماتها والانقلاب عليها، أو يضمحلّ وجودها السياسي على الخارطة الإقليمية والدولية وإن بقيت هياكلها تتحرّك وتفاوض وتتكلّم أو تصمت؟..
إنّ عهد ممارسة الحكم عبر الاستعراضات السياسية الخالية من المضمون انتهى، واضمحلّ مفعول الخداع الذي كان حافلا به، ووقعت بلادنا وقضايانا وشعوبنا ضحية له على مدى عقود عديدة، وإنّ بقاء أنظمة الحكم في السلطة لم يعد –بحدّ ذاته- ذلك "النصر المزعوم" الذي كانت تدّعيه لنفسها وهي تصنع الهزائم والنكبات، وإنّ علاقات التبعية بأعداء البلاد والشعوب، وهم يعيثون داخل أراضينا فسادا، ويرتكبون جرائم الفتك بالشعوب دون حساب، لم يعد يمكن تسميتها "علاقات ودية" أو "علاقات مصالح" أو "سياسة حكيمة" أو سوى ذلك من المسميّات الزائفة.
إذا أراد الحكام استعادة ثقة الشعوب بهم، فاستعادة ثقة الشعوب لا تتحقّق إلا بتمكين الشعوب من التعبير عن إرادتها بنفسها، ومن اختيار حكامها اختيارا حرّا لا تزييف فيه، ولا يقترن بتعطيل حقّ مراقبتها ومساءلتها ومحاسبتها على كلّ قرار صغير أو كبير، وعلى إبدالها بغيرها عندما تخفق في تحقيق الواجب الذي تحمله على عاتقها من خلال وجودها في السلطة، بدلا من أن تعتبر السلطة "وثيقة تمليك" تتحكّم بموجبها بالشعوب كما تشاء، وتصنع بقضاياها المصيرية ما تشاء، وتبقى متسلّطة على حكمها إلى أن تسقط موتا.. أو قتلا.. أو انقلابا عسكريا.. أو بدبابات أجنبية تحتل البلاد وتفتك بأهلها.
إنّ الاعتداء على أحمد ماهر أو سواه مرفوض دون جدال، ولكنّ مصداقية الرفض رهن باقترانه برفض الاعتداء المستمر على الشعوب وإرادتها وحقها في الحياة الحرة الكريمة العادلة، وحقها في الدفاع عن أرضها ومقدساتها وقضاياها المصيرية.