بسم الله الرحمن الرحيم
كل من مرّ يوماً على " لبد تسمانيا أو لبدة " سيحذيه نصي أطيب ريح .
أَخْطُو عَلَى دَرَجَاتِ سُلّمِهَا نُزُولاً إِلى مَمَرْات ٍتَضِيقُ و تَتَسِعُ بِي وَ لا تَغِيبُ عَنْ عَيْنِ ذَاكِرَتِي زَهَراتُ البَابُونِجِ الصَفْرَاءِ بَينَ أَحْجَارِهَا .
كُلُّ الصّوَرِ مَازَالتْ عَالِقَةً فِي وُجْدَانِي كَقَطَرِاتِ نَدى عَلَى وُرَيْقَاتِ الزّهرِ فِي صَبَاحٍ نَدّي ، خَلابَةً وَ تَحْمِلُ بَعْضَ الحَيَاةِ لِقَسْوةِ الظّهِيرَةِ ، وَ كَمَا كُنْتُ أَعَبَثُ فِي بَعْضِ صَبَاحَاتِي فَأرْشُفُ مَاءَ السّمَاءِ أنَّى وَجَدْتُهُ يَسْكُنُ ثَنايَا الزّهرِ أَخَذْتُ أَرْشُفُ تِلكَ الصّورَ رَشْفَاً رَفِيقَاً فِيهِ صَبْرٌ جَمِيلٌ عَلى عَطَشٍ !
وَ الغَرِيبُ أَنّ كُلّ تِلكَ الصّورِ مَازَالتْ بَهِيةَ الألَوانِ ، طَيبَةَ الرّائِحَةِ كَطِيبِ زَهْرِ البَابُونِجِ ذَاكَ ، فَمَازَالتْ الدَرجَاتُ تَهْبِطُ بِي نَحوَ البَحرِ عَبْرَ طُرُقَاتِ ضَيقَةٍ حِيناً و سَاحَاتٍ نَقَشَ العُشْبُ عَليهَا رُسُومَاً خُرَافِيةَ الأشْكَالِ أَحَاينَ أُخَرٌ ، و رَائِحَةُ البَحْرِ تُغْرِينِي أَنّ أَعْدُو نَحْوَهُ تَارِكَةً خَلْفِي كُلّ أَسَاطِيرِ الرُومَانِ العَتِيقَةِ .
لَكِنّ المَكَانَ يَسْلِبُنِي انْتِبَاهِي لأَغْرَقَ فِي عَبَقِ التَارِيخِ العَالِقِ بِرُخَامٍ أبْيَضَ تُنَظفُهُ السّمَاءُ كُلّ حِينٍ بِطَلٍّ ! أَوَ كَانُوا هُنَا يَلْعَبُونَ ؟ و هُنَاكَ كَانُوا يَتَصَايَحُونَ ؟ و عَلى تِلكَ المُدَرَجَاتِ يَهْتِفُونَ ؟ كَأنِي أَرَاهُمْ ! كَأنِي أسْمَعُهم ! و لَكِنّي أَسْمعُ صَوتَ المَوجِ يُنَادِنِي أَنْ أَقْبِلِي ، و كُلَمَا اقْتَرَبْتُ مِنْهُ تُرْهِبُنِي أَعْمِدَةٌ قَائِمةٌ فَوقَ رَأسِي و عَن يَمِينِي و عَنْ شِمَالِي تَكَادُ تَنْطِقُ ؛ أنّكِ صَغِيرةٌ .. صَغِيرةٌ .
و تَحْجِبُ كُلّ تِلكَ الحِجَارةِ زُرْقَةَ البَحْرِ عَنّي ، و تُغَطِي مَنْحُوتَاتُ الأسْمَاكِ فِي أسْواقِهَا الأفُقَ البَعيدَ و أنَا المُتَلَهِفَةُ ! فَأَقِفُ أتَلَمَسُ بِأطْرَافِ أصَابِعِي الدّقِيقَةِ عَينَ السّمَكَةِ و ذَيلَهَا ، و أخْرَى أَكبَرَ مِنْهَا ، و ثَالِثَةٌ قَاِئمةٌ بَينَهُمَا ! كَيْفَ حَفَرُوهَا فِي تِلكَ الصّخُورِ الصّمَاءِ و بِكلّ ذَاكَ الجَمَالِ ! و تَبْقَى السّمَكَاتُ الكَبيرَاتُ و الصّغِيراتِ أحْفُورَةً فِي ذَاكِرَتِي لا يُغَيّبُهَا الزّمَانُ .
و تَنْتَهِي المَدِينَةِ ، و أُخَلّفُ وَرَائِي كُلّ الحِكَايَاتِ المُشْرِقَةِ و الحَزِينَةِ ، و يَبْدَأُ الفَيرُوزُ يُبْحِرُ فِي عَينِيّ فَيُغْرِقَ كُلّ أورَاقِ الزّيتُونِ فِيهِمَا ، و تَمْتَلِئ أَنْفَاسِي بِعِطْرٍ فَرِيدٍ ، و طِيْبٍ خِلاطُهُ عَجِيبٌ ؛ سَكَبَ البَحْرُ فِيهِ قَطْرَتَينِ و الشّمسُ قَطْرةً و زَهْرُ البَابَونِجِ ألفَ قََطرةٍ و قََطرةٍ !
و الْتَقى الأزْرقَانِ هُنَاكَ بَعيدَاً .. بَعيداً عَنِي ، لَكِنّهُمَا التَقَيَا لِقَاءَ عَاشِقَينِ فَلا أَدْرِي أيُهمَا اضْمَحَلَّ فِي صَاحِبِهِ ! فَأعْرِفُ السّمَاءَ مَتَى مَا تَعكّرتْ الزّرقةُ بِرَبَابٍ و أَعْرِفُ البَحْرَ مَتَى اخْتَلَجَ ظَاهِرُهُ بِبَعْضِ يَبَابٍ . و لسْتُ أدْرِي أأنَا الغَارِقَةُ فِي الأدَيِمَينِ أمْ غَرِقَا هُمَا فِيّ ؛ فَهَا هِي آثَارُ البَلَلِ عَلى صَفْحَةِ خَدِي ، و هَا هِي آثَارُ الَبلَلِ عَلى صَفْحَةِ قَلْبِي .
و لَكِنّ الطّفْلَةَ التِي تَسْكُنُنِي تَخَافُ الغَرَقَ ؛ فَمَا أنْ أُبْحِرَ إِلَى الأفُقِ حَتَى أُغْمِضَ عَيْنَيّ ، و أسْتَنْشِقَ رَيحَ الصّبَا مَعَطّرَةً بِشَذَا زَهَرَاتِي الصّفْراءِ .