كأس العالم
ما يحدث في بلادي اليوم أعظم من مهرجان فينيسيا و أسعد من كرنفال الريو .
عيد فريد لا تحدّه أيام و لا تطمسه أعوام .
موسم بهيج ؛ القابض فيه على عقله كالقابض على الجمر .
عرس استثنائي لا نحن فيه أهل العريس ؛ و لا أهل العروس؛ ولا حجة لنا معه بأنه عرس الجيران أيضا .
سينقلب معه المثل ليصبح : العرس في ألمانيا و الدبكة في لبنان .
تهل علينا بشائره في الثلث الأول من حزيران كل أربع سنوات ؛ و تنهمك شركات الإعلام في توفير الأعلام و الرايات و الشارات و عصبات الرأس و الميداليات ؛ و تعلن المطابع اعتذارها عن طبع الكتب العلمية و الأدبية و التوقف عن إصدار الموسوعات إفساحا في المجال لطبع الملصقات الخاصة بالفرق المشاركة في كأس العالم . و تضاعف مشاغل الخياطة ساعات عملها طمعا في تأمين طلبات المحلات التجارية من الأعلام و القمصان و القبعات و الفولارات التي تتغنى بأعضاء الفرق المشاركة و تبرز محاسنهم .
و تسرع وزارة النفط و شركات البترول إلى ملء خزانات المحطات بالبنزين إرضاء لأصحاب السيارات التي تزعق ليل نهار في الأزقة و الشوارع رافعة علما كبيرا من أعلام الدول المشاركة في التصفيات النهائية .
و تجند الدولة دوريات راجلة و محمولة من رجال الأمن حفاظا على سلامة أمن المواطن و مروره من الشبان المستفَزين و المستنفرين طيلة أيام التصفيات .
ويفرح باعة المولدات الكهربائية و البطاريات المختلفة الأحجام لازدياد نسبة مبيعاتهم .
كما تختصرالجامعات والمدارس عامها الدراسي كرمى لعيون الطلاب المتفرغين لهذه البطولة والذين تتدنى مستوياتهم العلمية بسبب السهر و القهر و الانشغال الدائم .
و تستورد الدولة أطنانا مضاعفة من المكسرات و البزورات و القهوة و الشاي و المشروبات الروحية و غير الروحية تلبية لحاجة السوق المتعطش إلى هذه الضروريات .
و تنبري شركات التأمين للسهر تغطية للحوادث الناجمة عن الاستفزاز المتبادل بين مشجعي الفرق المشاركة واشتباكاتهم المتكررة و التي لا تجدي معها اتفاقيات وقف إطلاق النار و الشتائم ؛ و تفتتح المستشفيات أقسام طوارئ إضافية لاستقبال القتلى و الجرحى المصابين في حوادث السير الكروية و المشتبكين في التلاسنات الاستفزازية . و يستعد القضاة و المحامون للبت في دعاوى الطلاق المستعجلة بين الأزواج المختلفي الأمزجة و الانتماءات فكيف بزوجة ألمانية الانتماء أن ترضى بزوج برازيلي التوجّه و التطلع مثلا ؟
تجول في المدن و القرى فتجد البنايات كلها قد تحولت إلى ما يشبه مبنى الأمم المتحدة في نيويورك حيث الأعلام المختلفة تزين الشرفات ؛ و يصل العشق بأحد السكان إلى حد تفصيل علم يغطي واجهة البناية بأكملها ، فيغضب ساكن في البناية المجاورة و يغدق على بنايته كسوة من الحرير الخالص و المذهبة الأطراف تلف البناية من أركانها الأربعة و الويل للريح إن عبثت بها ؛ و الويل ثم الويل لمن يمسّ هذه الكسوة المقدسة بسوء أو يزعجها بزمور سيارته الحاملة علما مخالفا لها .
موسم كروي تصبح معه السيارات كلها هيئة دبلوماسية و الوطن مقسّم إلى اثنين وثلاثين دويلة خارجية الانتماء .
كل هذا يرافق التحضيرات النهائية للبطولة ؛ أما حين يطلق حكم المباراة الأولى صافرة البداية فإن الأمور تختلف فتشلّ الحركة الاقتصادية و الاجتماعية و يرتاح السياسيون من وجع الرأس و من مقارعة الحلفاء و الخصوم دفعة واحدة ؛ و ينزوي الشعب الكادح داخل الجدران المغلقة ناذرا لله صوما عن كل حرف إلا ما يتعلق بالكرة .
و تظل المشاحنات معقولة و مقبولة في مراحل البطولة الأولى إذ سرعان ما يتغير الوضع مع اقتراب الأدوار النهائية فينقلب التشاحن إلى بغضاء و البغضاء إلى تلاسن والتلاسن إلى عراك بالأيدي و الأسلحة الخفيفة و الثقيلة في بعض الأحيان . و تعلو بورصة الأسهم في سوق المراهنات و المضاربات و ترتفع أسعار العملات الصعبة لازدياد الطلب عليها ؛ و تروح العملة الوطنية تشكو بثّها و حزنها إلى الله تعالى .
وما إن يعلن الحكم صافرة النهاية في المبارة الختامية حتى تنطلق المظاهرات العرمرمية لمشجعي الدولة الفائزة بالكأس على وقع طبول النصر المؤزر شاقين بحناجرهم أجواز الفضاء متزاحمين في الطرقات مع السيارات التي ترسل أبواقها داعمة لهذا التحرك الشعبي المحقّ و يطل الشبان المنتصرون من شبابيك السيارات ملوحين بأعلام الدولة المنتصرة مطلقين صفارات الابتهاج و متحدّين الجماهير المنتكسة و المغلوبة ، عازفين بألسنتهم أقذع سيمفونيات الهجاء و التهكم و الشتائم لمن خانه الحظ و خسر فريقه .
و تفرح الدولة حاملة الكأس بنصر الله و بكثرة الشعوب المنضوية تحت لوائها و اللاهجة بحمدها و الناطقة باسمها و الغافلة عن مشاكلها الداخلية و الخارجية و عن مجازر فلسطين و العراق و الشيشان و أفغانستان و عن مجاعات أفريقيا و غزة و عن كوارث أندونيسيا ؛ و عن القوانين المجحفة بحق الشعوب و التي تمررها مجالس النواب بخفة و رشاقة في غمرة انشغال الشعوب بالتصفيات الكروية ؛ و دون اعتراض من أحد .
و تفيق الشعوب في اليوم التالي من سكرة النصر و من إغماءة الهزيمة فإذا الضرائب قد تضاعفت و الإنتاجية قد تدنت في المصانع و الشركات و إذا العجز في الميزانية قد بلغ حدودا مريعة و إذا الحكام السياسيون يضحكون ملء أشداقهم و هو يطلون من شاشات التلفاز معلنين شكرهم للشعوب المتحضرة لتشجيعها الرياضة و لقدرتها العجائبية في صنع الأعياد من العدم و لدماثة أخلاقها في التعاطف مع أفراح شعوب العالم .
و يصحو الشعب من كبوته متثاقلا منتوف الريش ؛ تصفر الريح في جيوبه و الحسرة في قلبه و ينهمك في إزالة آثار المهرجان على أمل يتجدد بعد أربعة أعوام حاملا تباشير كأس جديدة و عرس جديد ، يصح معه المثل السائر :
القرعة تفرح بشعر بنت خالتها .