هل أنا غلطان؟
لا تقرأوا قصتي هذه.. و لا حاجة بكم إلى إهدار وقتكم الثمين .. تجاوزوها إلى نصوص أخرى أو إلى اهتمامات أثرى .
إياكم أن تنخدعوا بالعنوان ,فالعناوين مخاتلة ,يختارها الكاتب بدقة وعناية مركزة كي تأتي مشحونة بالتشويق و الإثارة .
ستخدعون أنفسكم , ولات ساعة خداع .
أنصحكم أنا – و أعوذ بالله من كلمة أنا- بأن تهبّوا اليوم عن بكرة أبيكم للتزاحم أمام الصناديق . ستتساءلون عن أية صناديق أتحدّث؟
صناديق المساعدات الاجتماعية / صناديق البريد/ صناديق التبرعات / لا .. لا .. لا أقصد هذه الصناديق رغم فاعليتها و أهميتها .
كما أنه لا يهمني نوع الصندوق الذي أدعوكم للتزاحم أمامه ,الأهم هو نوع التقديمات التي ستحظون بها !
أما أنا – و أعوذ بالله من كلمة أنا – فاعذروني لأنني سأعتكف في منزلي,بل في غرفتي , ولن أهرع مثلكم للفوز بدور ثانوي في مسرحية فاشلة .
قولوا عني : متقاعس – انطوائي – سلبي .. قولوا ما شئتم . فهذا لا يهمني في قليل أو كثير .
يكفيكم فخرا أنني أدبّج لكم هذه القصة في هذا اليوم المشهود .
و يكفيني فخرا أنني لم أشهد الزور مثلكم وحجبتُ نفسي مختارا .
ولقائل أن يقول : " وجودك مثل عدمه ". قد يكون محقّا و قد تكونون مثلي تماما : تأكلون و تشربون و تتناسلون و تنامون وتكتئبون و تسبون و تلعنون بصوت خفيض,وتتأففون وتتضجرون و تلهبون حناجركم بالدعاء على الحكام و المحاكم و الحكومة والحكماء ثم تتسابقون بعد ذلك كله إلى الوقوف في طوابير طويلة أمام صناديق الاقتراع.لكن الفارق بيني و بينكم هو أنني سأحتفظ بصوتي لنفسي. ستذهبون باكرًا و ستردّدون كالببغاوات ما تتشدّق به أبواق الإعلام : عرس الديمقراطية .
مبروك عليكم هذا العرس . و دامت الأفراح في دياركم عامرة . أما أنا فلن أرقص في هذا الحفل البهيج .
أراكم من هنا تقفون كالأصنام أمام المركز المخصصة لكم تنتظرون دوركم بمنتهى الصبر و الرضى و تستمعون إلى تعليمات المندوبين المعتمدين من قبل مرشحكم اللطيف و أنتم تهزّون رؤوسكم قائلين : حاضر سيّدي .
لا تسألوه عن بطاقتكم الشخصية . إنه يحتفظ بها كي يضمن وفاءكم بالوعد وهو لن يدفع إليكم بالمبلغ الذي ارتضيتموه ثمنا لأصواتكم إلا بعد أن يتأكد من انتخاب المرشح العتيد .
و أراكم أيضا تخبئون ورقة ما في بواطن أكفّكم و تعضّون عليها بجامع أصابعكم . لا تخافوا ؛ الورقة لن تطير و ستجدون مثلها الكثير الكثير و ما عليكم إلا أن تدققوا فيها و تقرأوا الأسماء بتمعّن خشية التزوير .
أراكم جيدا , تمشون نحو الصناديق كالمنوّم مغناطيسيا و تتبرّعون لها بملء إرادتكم ,تدسّون في جوفها اللائحة المعطاة لكم .
لن أناقش في قانونية الصناديق الحديدية الصمّاء و لن أطالب بصناديق زجاجية شفافة تفضح ما بداخلها ,لأن صوتي رهيف لا يسمعه أحد سواي . و أعرف أننا لسنا في بلاد الغرب ,وأن بلادنا تفتقر الى نقطة تتمركز فوق حرف العين كي نصبح مشابهين لتلك البلاد لفظا على الأقل .
لا لن أناقش هذا السيل العرم من البشر المتسابقين إلى صناديق الاقتراع .
هم أحرار فيما يفعلون , و أنا حرّ فيما أفعل!
قال لي جاري : قم و انتخب ؛ إذا جنّ ربعُك ,عقلك ماذا ينفعك ؟
فقلت له : الجنون أحيانا نعمة النعم و لكن ليس في الوقوف أمام الصناديق .ثم إذا جنّ ربعي فسأصبح بعقلي زعيمهم المفدّى الأوحد الملهَم الأمجد وإلى الأبد .
سأدعهم يشهدون هذا الكرنفال (الديموكراسي) فرحين و سيتقاتلون فيما بينهم من أجل نصرة هذا النائب أوذاك و قد يموت البعض منهم فداءً لزيد أو لعبيد و قد يُجرح البعض الآخر و يحمل جرحه وسام شرف على وجهه أو قوائمه الأربع و لكنني لست مستعدّا بعد للاستشهاد في سبيل نائب أو نائبة كما لست مستعدا لحمل وسام الجرح كي يقول القاصي و الداني عني:" انبطاحي مأجور ,ناضل و جرح في سبيل بشر عادي لا في سبيل العقيدة و المبدأ ."
و بعد الاقتراع سيعود المنتخِبون إلى بيوتهم مسرورين بإنجازهم الكبير و لسوف يقتلهم الانتظار المُملّ و هم يتحفّزون لمعرفة من فاز من النواب و من لم يسعده الحظ . و لسوف يجوبون الشوارع و الأزقة مطبّلين مزمّرين لنجاح مرشحهم و لن يناموا الليل ساهرين فرحا واغتباطا بوجود سنَدٍ وظهْر لهم داخل المجلس النيابي و عند الصباح سينبلج الفجر و سيكتشفون أن نائبهم العزيز قد غادر ديارهم إلى العاصمة و إلى الأبد وأنه سينوب عنهم في اتّخاذ القرارات الخاطئ منها و المصيب وأنه سيجد ألف عذر و عذر للاعتذار عن مقابلتهم و سماع شكواهم و سيدركون في النهاية أنهم قد غُرّر بهم و أنهم حفروا قبر الديمقراطية بأيديهم و حملوا إلى صناديق الاقتراع قرار الاهمال الخاص بهم . أما أنا فسأضحك كثيرا لأنني ربحت أخيرا ,بل لأنني الرابح الوحيد الذي رفض الخازوق بملء إرادته .
و هكذا أكون قد ربحت كرامتي كما ربحت الوقت كي أكتب هذا النص .
سيقول البعض : النص ليس قصة بل هو أقرب إلى المقالة أو الخطبة أو الخاطرة ,أو لنقل هو قصة خنفشارية ينقصها الفضاء الزماني و المكاني والشخصيات والعقدة والحل. ربما كان هذا صحيحا. وهذا لا يهمّني أيضا المهمّ أنني عبّرت عن رأيي بحريّة كأصدق ما يكون التعبير و لم أرض بأن يُعبّر عن رأيي أحد ,كما جعلتكم تقرأون هذا النص حتى النهاية .
اشتموني كما شئتم فالشتيمة تعود على الشاتم ,و الْعنوني كما تشاؤون وقبل ذلك إلعنوا حظّكم العاثر الذي أوقعكم في شِباكي ,فلا دخل لي في المسألة . الحقّ كلّه عليكم . نعم! عليكم وحدكم .
ألم أحذّركم في بداية النص قائلا : لا تقرأوا قصّتي هذه.......