قبل أن ترحل أمي وفي يدها قلبٌ من ياسمين وحنطـة، كانت دائما تحدثني عن هذا المجهول، عن قوافل الجرحى : جرحى يحملون دائما حقائبَهـم ممتلئةً بالذكريات وبالأنين، ممتلئةً بعبرات منهملةٍ وأخرى محتبسة بالصدر لا تملك من أمرها شيئا.
كنت أتوق أن أتحسس هذا الوجع، أن أحس بمثل ما يحس به كل مكلوم اتخذّ من الصمت لغتَـه، كنت أستغرب أن يحبسَ إنسان نفسَه بين جوانحه يبكيها أو يبكي أطلاله التي عفتْ. كنت أسمع عن الجرح ولا أعرفه، عن الدمع الساخن وأجهله، عن الليل وأرغب عنه، ولم أدرِ أني بذلك كنت أفتح بابًا لكل قوافل الجراح القديمة والأخيرة، كنت أجهل بأني أُشرِف على رحيل طويلٍ بين فكّي الألم، ولم أكن أعرف أن هذه القوافل مكَبَّلةٌ بالسَّجَم والعذاب !
وقادني عنادي إلى رحلة طويلة جعلتني أكبرَ من الجرح نفسه، جعلت الليل قصيدي ونديمي وإلفي بل وشرفتي، بل غدا العمرُ نفسه يصغرني كثيرا ! وكأنّ تلك البساتين التي كنت ألهو فيها مع رفيقاتي، نقطف أزهارَ الطفولة والمطر، نتتبّع فيها خُطى فراشـةِ الحب وهي تداعب قلوبنا الصغيرة، لمْ تكن إلاّ جزيرةً قد اعتزلت كل جزر الجراح المجاورة لها ! لم تكن إلاّ إكليلا من الشجن !
لماذا لم أُصغِ إليها؟؟ لماذا لم أبتعد عن قوافل المكلومين؟ لماذا كنتُ أنتظرهم عند الغروب لأسألهم الحكايا؟ لماذا اقتربتُ من خيمة العشق أنبش أسرارها ؟
وانتهت رحلتي في صدر أمي لتبدأ هي الأخرى رحلتَها في سماءات الغياب. وبحثت عن نفسي وعن هذا الحنان الذي افتقدته بارتحالها إلى جزيرة أخرى، حتّى اقتربتْ مني فجأة نجمـةٌ ترتدي نوراً، فأدركتُ أن ثمـة حنانا زنبقيا خالدا أستطيع أن أهفو إليه كلما فاضت جراحي، كلما زلزلني هذا العبَق، كلما لفني ذلك الخوف من الولادة، من هذا القلب المغمض الذي ينبعث منه عبيرٌ قديـم : حنان أرحم الراحميـن !
كلما حاولتُ أن أنثر خوفي عني، تباغتني الولادة فيزداد خوفي وأركن إلى الصمت. أرى العيون قد هجعتْ وأنا جالسة أعاتب النجوم بدل أن أعدّها، وأنوارها ساهرة تقص علي حكايات قوافل ليلى وقيس، وقد مضت تمتاح من أرقـي. والقمر ضائـع في دفاتره، يكتب لنسمة الفجر الناعسة قصتـَه القديمة منتشيا.. ينتظرها.. لم ينسها..
هاهي ذي نجمة تجلس إليّ مختبئة عنْ أعين النّاس، تكفكف هذا الدمع المحتبس في قلمـي، وكأنها تخشى أن يقفز السّجمُ فجأةً في غفلة مني ومنها، وينبش عيون الزهر التي أراها هي الأخرى نائمةً الآن، أو كأنها تخشى أن تبتلَّ هذه الورقةُ وهي تحتفي بأشجاني، فيستفيق النُّـوّم وتضطر هي للرحيل مُرغمةً..
وهاهي ذي حمامةٌ قد هربت من إلفها لتربتّ على كتفي، إنها هدية من اللـه أرسلها مع أول نسماتِ الفجر الذي لم يستفق بعدُ من سباته، حمامة تحطّ على جرحي مثقلةً بجراحها، تهدي إليّ طـاقة من الصبر والصمت.
هاقدْ رحلتُ في طوقها مستترة بحبّ اللـه ، ينبض قلبي بالخوف منّي ومن هذا القادم..