وميض اللقاء
صعدت إلى عربة القطار مسافراً أحمل آحلامي ،وأتجرع آلامي ودلفت إلى مقعدٍ تخيرته مبتعداً عن الضوضاء
كيما أغتنم وقتي متأملاً في الحياة ومعانيها، سائحاً في مقاصدها ومغازيها
فماأصعب أن تُفرِّق الأقدار بين خليلٍ وخليله ، وماأفجع أن تُباعد بين شقيقٍ وتوأمه بله عن حبيبٍ وحبيبه...
فإذا الواحد منهما يتحسس الآخر فلايلقاه،ويتلفت حوله فلا يراه،وينظر أمامه فلا يجد إلا نفسه يبثها شكواه
ليتفنَّن في اختراع الحجج لحاله والحيل لنفسه، مصبراً إياها ، ملوناً بلواها بأصباغ مؤقتة لكي لاتبدو على حقيقتها
ليرتقب وينتظر دون أن يحقق مناه، مصطبراً السنين تتبعها السنون عساها تفترُّ له وتريه مباسمها وكحل عيونها.
كانا معاً منذ نعومة أظافرهما ظلين لبعضهما ،تشرق شمس صباحهمامع الصباح الباكر
ويتنفس نسيم الصباح الصفاء والنقاء بينهما ،لينداح نداوةً مدغدغاً مشاعرهما،
وتتنقل أشعة الشمس بينهما لتلفح وجوههما الغضة البيضاء لتبدو كأنها اكتوت بنارٍ هادئة لافحةً إياها
تلقاهما لصيقين على محيا الحياة كعينين تتفتحان وتوسعا أحداقهما لرؤية المستقبل المنشود ،
وتغفوان على حلم الحياة السعيدة وإشراقة الحياة، وتبصرهما كيدين نشيطتين تبدت سواعد الجد والعزم مفتولةً فيهما
وتلقاهما يمتشقان النجاح سيفاً قاطعاًعلى مسرح الحياة لتتعاون إحداهما مع الأخرى بجميع أحوالها رضىً وسخطاً، تصفيقاً وشغباً،
هوذاك لتمر رحلة الطفولة والشباب على أقدامهما معاً بحزنها وسرورها ، وفرحها وشجونها
ليبدو الواحد منهما للآخر همس نفسه، وحديث وجدانه ، ونبض قلبه،ورفيف روحه أجل كانا هكذا
فكيف بهما بعد ذلك إذا افترقا وألقت بأحدهما عصا الترحال على قارعة الغربة، يتجرَّع الشوق ،ويقتات الحنين
ويتنفس الألم، ويزفر الآهات ليتسول الوطن ... ويمد كلتا يديه ليحظى بدرهم حرية بعد أن باتت تُباع وتشرى ..!
ويحاول بكل عزم أن يأخذ زكاة حقوقه ولوسلباً بعد أن أضحت شريعة الغاب تحكم رقاب الناس وتتحكم بمقدراتهم!!.
لتبدو لواعج الحنين ظاهرة ًكالتلال ،وتتعالى أمواج الشوق في أعماقه كالجبال ليضحي بين هذه وتلك متماوجاً مضطرباً ،
يلعق مرارة الغربة صبراً ، ويلقى حرارتها بداخله جمراً،لايسكن حرارة دائها دواء،ولايبردها الهواء والماء رغم أنه لم يعد مشاعا،
وليس له في حالته هذه إلا الصبر،والتسلح بالإيمان ،والتَّدرع باليقين،وماأعظمه من زاد، وماأروعه من عتاد،
لتهبَّ بعدها نسائم أنسه،وتسَّاقط غمائم حسِّه برداً ويقيناً،وينهمر ماؤها دمعاً سخيناً
وليس بعد ليل الصَّبر إلا إشراقة الفجر،وليس بعد يقين التَّوكل إلا وميض اللقاء.
وبينما أنا مستغرقٌ في التفكيربعظمة الإيمان وثمراته في الحياة،مستمتعاً برضاب الرضا واليقين وشهده بكل أحاسيسي
إذ بمأمور القطار يعلن عن اقتراب موعد الوصول فتنفست الصعداء وحمدت الله على جنة الإيمان ونعيم الرضا والقبول متذكراً قول جرير:
ولو فهم الناس التَّلاقي وحسنَهُ = لحُبِّبَ من أجل التَّلاقي التَّفرقُ
د.محمد إياد العكاري
15/12/2006م
24/11/1427هـ