هكذا قرأت لوعة البين...!!!
( قراءة تذوقية لقصيدة لوعة البين للشاعر الدكتور سمير العمري)
https://www.rabitat-alwaha.net/molta...ead.php?t=4028
سلطان الحريري
جاء على لسان أحد النقاد قوله: " على الشاعر ألا يقبس من ألق النور فحسب ، فالنور المتلألئ قد يعشي البصر ، ويلويه ، وهو ظامئ عن النبع الذي ينشد. عليه أن يتسلل إلى الأعماق ليظفر بخلجات النفس ، الواضح منها والمبهم ، ثم ينفضها واضحة مبهمة . يتعانق فيها النور والظل ، ويحظى فيها اللفظ والمعنى بلقاء لا تهيئه المصادفة ، ولكن حظا سعيدا خلاقا هو الذي يهيئه ويعد أسبابه"
تصدق تلك النظرة للشاعر على د. سمير العمري الشاعر في معارضته لنونية ابن زيدون ، وأود أن أشير بداية أن حديثي عن قصيدة الشاعر هذه ليست رؤية نقدية علمية المعالم ، بل إنها وليدة ذائقة لطالما شدتني إليها ، لأنها تنقلني إلى عالمين : عالم ابن زيدون في رائعته ( النونية ) ، وعالم سمير العمري الذي غاب في استغراقه فيها ، وطاف حول منبعها الخالد ، مثله كمثل من يغرف من منابع صافية ، ليسكب ما اغترفه في قصيدة خالدة.
والجدير بالذكر أن هذه المعارضة للنونية أبرزت صوت العمري الشاعر ، بعد أن امتصّ سحر النونية ، فباتت المعارضة جزءا من نسيجه معبرا عن تجربته الذاتية ، فلم يكن من أولئك الذين يقعون تحت سيطرة النص المعارَض ، بل حوّله إلى مادة حية تنبض بقلب جديد.
لقد نحج د. سمير العمري في خلق أجواء جديدة على النص سكب فيها تجربته الذاتية ، لدرجة أن النص المعارَض ذاب في حنايا النص الجديد ، ما عدا ما بقي من الموسيقى وبعض المعاني التي تحيل من طرف خفي إلى النونية.
كانت نونية ابن زيدون في الغزل فحوّلها شاعرنا إلى هم سياسي واجتماعي عبر فيه عن شوقه لفلسطين ، فجّر عنده ينابيع من المشاعر والأحاسيس الجياشة ، وفجّر إضافة إلى ذلك ينابيع الابتكار.
وقد دعوتها بالقصيدة اللغز ولبيان ذلك أقول : إنك حين تقرأ القصيدة من أولها إلى نهايتها فإنك تعيش جو ابن زيدون الغزلي ، فالقاموس المستخدم فيها هو قاموس الغزل فاللفظ يسربل المعنى ، ويبدو كالثوب الذي ينتظم إهاب الغادة الحسناء ، تتخيل العين المفاتن التي تختبئ وراء الثوب وتتمثلها ، في شوق ونزوع وتطلع متصل ، وانحسار ذلك الثوب في يسر ورقة يكشف المعنى دون طلب جهد ، وفي كليهما فهم واكتفاء.
وأنت تسير مع الشاعر في دفقه الشعوري ، فتعيش الحبيبة الأنثى ، وتعيش الشوق وجلاء مشاعر الشوق إليها ، وإذا بالكلمة النهائية تصدمك ، لا صدمة المستاء ، بل صدمة المبهور ( فلسطينا) الكلمة الحل التي تعيدك إلى بداية القصيدة لتقرأها من جديد ، عندها يبدأ القارئ بوضع الظل حيث ينبغي أن يكون الظل ، و ينسل النور حيث يستحسن أن يكون النور، والعودة إلى الأعماق التي لم ينفذ إليها النظر في القراءة الأولى ، بل تدعوك القراءة الثانية إلى الغوص في أعماق اللغة الشاعرة التي تمثلت في كل ما جاء فيها.
ويمكننا من خلال القراءة الثانية للقصيدة أن نعي أن معارضته - تختلف عن معارضة الكثيرين ممن سبقوه ، فهي معارضة هضم وتمثل، دون أن تكون سلخا لذلك التراث.
|
أَعَادَكِ العِيْـدُ أَمْ عَـادَتْ عَوَادِيْنَـا |
أَمِ اسْتَعَادَتْ مِنَ الذِّكْـرَى دَوَاعِيْنَـا |
|
|
ويأتي البيت الأول ليضعنا في جو قد يكون ممجوجا في المعنى الاصطلاحي للكلمة ، وذلك لاحتشاد الكلمات المشتقة من جذر واحد ، لكن شاعرنا نجح نجاها باهرا في وضعها في سياقها ، بل إنها لم تعد مقصودة لذاتها ، فالفعل الذي يسيطر على البيت هو الفعل عاد ( أعادك – عيد – عادت – عوادينا – استعادت ) ولا أشط كثيرا في الذائقة حين أذهب إلى أن هذا الفعل يلح على شاعرنا فيكرره باشتقاقات متعددة ، وما ذلك إلا لأنه الهاجس الأول له في غربته . كل ذلك بعد أن عدنا لقراءة القصيدة مرة ثانية فاكتشفنا لغزها ، فالقصيدة في كلمتيها الافتتاحية والختامية تبين حلا لذلك اللغر ، ولعل المعنى وهو يتسق في اللفظ ، كالعطر الذي يكمن في البرعم ، قد يكون الشوق إليه قبل أن ينور البرعم في قرن واحد من النشوة مع طيب شميمه . ألم يقل ( بول فاليري): " ينبغي أن يختفي المعنى في القصيدة كاختفاء قوام الغذاء في الفاكهة ، فالفاكهة ، وهي غذاء- لا تتبدى لنا سوى متعة ولا نستحلي منها سوى لذة ، غير أننا نلتقي منها ، في الحقيقة ، مادة مغذية ، فيواري التشهي والاستطالة ذلك الغذاء الخفي الذي تقصد إليه الفاكهة " .
ولعل أجمل ما في القصيدة أن القارئ لا يقتصر على الأخذ والتلقي ، ولكنه يعطي ويمنح ، فهو يتأثر بالقصيدة ، وينعم بألوانها فينادم ألفاظها الرقيقة ، ويعيش في الجو الموسيقي الحالم الذي أبدعه الشاعر ، وهو إلى ذلك يواكب معاني الشوق ، فتأتي الموسيقا الداخلية لتعانق اللفظ ، فتمنحه تفسيرا ، وتضفي عليه ظلا جديدا ، فيظل يلوب في قلق حلو مبدع ، وفي شوق لا يحد إلى محبوبته الأثيرة التي غيبه عنها الزمن المر .
فقد أضفت حروف المد المتلاحقة في البيت الأول وغيره من أبيات القصيدة ذلك الاستغراق في التجربة الشعورية ، وامتدادها عبر زمن الحدث ، ومرارة البعاد...
إن تلك الموسيقى العذبة التي تجعل الكلام يسيل على لسان القارئ فتجعله ينبسط في فضاء الخيال ، وهي ترسل نغماتها العميقة فتوقظ الذكريات الغافية ، وتهز الوجد والحنين ، وتدلف إلى أغوار النفس فتنقل السامع إلى أفق مستوفر رحيب .وقد أسهمت ألف الإطلاق بعد النون المسبوقة بحرف مد ( الياء) في قافية القصيدة في إبراز ذلك البعد الحالم الحزين.
لم أكتب ورقتي هذه لأدخل في حنايا الألفاظ ، أو لأقرأها قراءة لغوية ، فقد كفاني أستاذي الكبير الدكتور مصطفى عراقي مؤونة الخوض في هذا المجال ، وإن كان رحبا ، يتسع لي وله ولغيرنا ممن يرون ما لا يراه غيرهم ؛ ولكنني أردت أن أعبر عن مشاعري تجاه قصيدة أحببتها .
وقد يكون في الشعر صور لا توضحها الألفاظ بذاتها ، وإنما مقاطع من القصيدة يبعثر الشاعر في أنحائها ألفاظا تنقل إلينا الجو الذي يحيط به ، لتكون صورة متكاملة ألا تراه معي وهو يشدو قائلا:
|
فَتَسْبَحُ الرُّوْحُ نَشْوَى وَالهَوَى ثَمِـلٌ |
وَيَقْطِفُ القَلْبُ بِالشَّـوْقِ الرَّيَاحِيْنَـا |
لَكَمْ سُقِيْنَا بِدَارِ السَّعْـدِ هَمْـسَ فَـمٍ |
وَاليَوْمَ يَسْكُنُ جَفْنَ العَيْـنِ سَاقِيْنَـا |
وَكَمْ قَطَفْنَـا نَوَاصِـي كُـلَّ دَانِيَـةٍ |
مِـنَ الغَـرَامِ وَضَمَّتْنَـا أَمَانِيْـنَـا |
الزَّهْرُ بَسْمَتُنَـا وَالطَيْـرُ هَمْسَتُنَـا |
وَالصَمْتُ رَبْوَتُنَا وَالشِّعْـرُ وَادِيْنَـا |
|
|
نسير مع شاعرنا في هذه الصور الرائعة التي تنقل إلينا سحر العبقرية في التعبير عن تجربته ( سقينا همس فم ) ( يسكن جفن العين ساقينا) ( قطفنا نواصي كل دانية... من الغرام) ( ضمتنا أمانينا ) ، ويأتي بعدها ليكمل الصورة فيما يسمى في البلاغة العربية ب(صحة الأقسام) ، وفيها يستوفي الشاعر أو الناثر المعاني كلها في بيت أو في عبارة :
|
الزَّهْرُ بَسْمَتُنَـا وَالطَيْـرُ هَمْسَتُنَـا |
وَالصَمْتُ رَبْوَتُنَا وَالشِّعْـرُ وَادِيْنَـا |
|
|
وفيها وضعنا عن طريق هذه الصورة الكاملة في الجو الحقيقي لتجربته الشعورية .
لا أريد أن أفصل القول في حيثيات الصورة واللغة في قصيدته ، ولكنني أريد التعبير عن أمر رأيته في حنايا هذه القصيدة ، أو شعرت به ، وهو أن الشاعر في أبياته كلها إلى نهايتها كان يحمل هموم الغربة والشوق والحب الكبير ... وهو في كل ذلك غير مرتاح رغم جمال الجو الذي رسمه في صوره وألفاظه ،ولكنه تنهد مرتاحا في البيت الأخير ، فكأن ما كتبه ذلك حمل العبء الكبير الذي يشعر به ، فجاءت الكلمة المفتاح ( فلسطينا ) فاكتملت بذلك الصورة النهائية ، وكأنه يريد أن يقول لنا: موسيقاي الشعرية ، في صخبها ولينها ، وألفاظي كلها صعبها وسهلها لا تنفصل عن كياني ، فمن ذا الذي يطلب إلي أن أكون غير ذلك؟
وأخيرا فإنني أعتقد أن الشعر يولد في الصمت ، يتنفس في الجماعة ، ويختنق بالعزلة ، وإذا كان الشعر معبرا عن الهم الوطني، وهم الاغتراب والغربة ، وهم البحث عن الفردوس المفقود ... فإنه يسمو بنا ، ونونية سمير العمري من هذا النوع الراقي الذي تقرأه لتسمع ، وأحيانا تسمع لتنظر ، ولعلك تشعر بالألم ، ولكنه ألم نبيل ، ويتحقق ذلك في قدرة شاعرنا على تشقيق الكلمات وتصريفها مما يوحي بروح ليست منهزمة ، تتفجر أحيانا بعنف ، وأحايين أخرى يلتصق بنفسه بوصفه مهاجرا وإنسانا ومغتربا ...
ولا أخفي في نهاية قراءتي التذوقية لنونية سمير العمري أن سحر نونية ابن زيدون جعلها تبدو أكثر بهاء ، ولعل قادمات الأيام تسعفنا ببحث مفصل عن سحر نونية ابن زيدون ومقوماتها التي جعلتها تحتل الصدارة في عالم القصائد التي عارضها الشعراء.
ولابد من ملحوظة أضعها بين يدي هذه القراءة ، وهي أنني قرأت قصيدة الدكتور سمير العمري في اجتماع أعضاء رابطة الواحة الأسبوعي في الكويت، وبعد قراءتها عبرت عن مشاعري تجاهها تعبيرا عفويا ، ثم فوجئت بأستاذي الحبيب الدكتور السمان يطلب إلي أن أكتب ما جاء ارتجالا عند حضور القصيدة في أثناء قراءتي لها ، فجاءت في هذه الوريقات، وما أردت منها أن تكون قراءة نقدية ، بل هي مشاعر صببتها على ورق.
ولكم أحبتي خالص حبي وتقديري
( من أوراق: قراءات في شعر الدكتور سمير العمري - فرع الكويت)