احياناً كثيرة أود الهروب من هنا الى هناك ، فقط لو استطيع أن الملم اشلائي وبقايا من احبهم ، لو استطيع أن احملهم معي واذهب بعيداً، هناك حيث لا احد يعرفني ... ولا أعرف احد ...
أريد أن أذهب ،رغم كل شيء ، رغم كل ما فعلته ، لم أعد أطيق الإنتظار ، أريد ان أذهب، وأن أنسى اشياء كثيرة في هذه البقعة الأسيرة ، حيث وطني ، لم يعرفني ولم يسمع صوتي ، فسياط الجلاد وأغاني أم كلثوم منعت اصواتنا ، حبستها فلم تصل ، وبقينا مناضلين نأكل السياط ، وبقايا تراب من هذا الوطن ، لم نعد نشعر بالجوع إلا لحريتنا المسلوبة ، بقينا هكذا سنيينَ طويلة نتحسس جراحاتنا ، ونعد العدة ليوم الرحيل الكبير ، ماتَ كل الذين كانوا معي ، لم يبقى احدٌ غيري وغير ظلي اخاطبه ويخاطبني ، تعودتُ على مخاطبة ظلي ، حتى لا أنسى الكلام ، فكان أنيسي في وحدتي ...
ثمَ خرجت بفعل فاعلٍ ، خرجتُ من سجني الصغير إلى سجنٍ كبير ، أحمل معي جراحاتٍ كثيرة ، أرّقت نظرَ السجّان ، فلم يعد يحتمل رائحتها ، فأطلق سراحي ، خرجت وما وزلتُ لا أعرفُ كيف خرجت ، ولماذا أصلاً دخلت هذا السجن الكبير ...
خرجتُ وبدأت أحاول البحثَ عن بقاياي ، عن وجوهٍ إشتقتُ لها كثيراً ، بحثتُ ، فلم أعثر على طريقٍ واضح المعالم ، فكل الضجيج من حولي أثار علىَّ جراحي ، فلم أعد أستطيع السيرَ وحدي ، ولم أنتبه إلى أن الزمن غيرَ حتى من ملامح الطبيعة التي تجاهلتني ، ولم تساعدني في بحثي ، وبقيتُ شارداً وحدي ، وآهٍ من جرحي ...
ذهبتُ بعد عناءٍ شديد ٍ إلى بيتي ، وبحثتُ في الوجوه ، هل تعرفون إبناً لكم كان هنا ذاتَ يوم ؟، لم يجبني أحد ولم يعرفني احد ، حتى صوتي تغير ، لعلَ السبب أن الآه كانت تخرج جافة ، رغم الدموع والدماء الغزيرة التي بللت حلقي ، فأحترقت أوتار الصوت ، لهذا لم يعرفني حتى أقربُ الناس إلى نفسي، إنتظرتُ أمام الباب طويلاً ، لم احاول أن أسأل كثيراً ، كل ما أعرفه أن هذاهو بيتي ، وأن أمي لم تزل على قيد الحياة ، سأنتظر إذن لعلها تأتي قبل أن أموت من خوفي .
إنتظرت طويلاً ،كثيرون مروا من امامي ، منهم من اعرفه مثل نفسي ،لكن لم يعرفني أحد ، إنتظرتُ حتى جاءت أمي ، فلم تكد تراني حتى صرخت و أغميَّ عليها ، نظرَ الجميع إليَّ ، وعندها فقط وجدتُ نفسي.
خرجتُ ونمتُ في حضنٍ دافئ ، ورغم الجراح نمتُ ولأول مرة أنام ، مغمضُ العينين ، لم يزعجني أحد ، لا دلو ماء بارد سقط فجأة من السماء ، ولا سوطٌ له نغمة غريبة ، تجعل من الأذن صفارة هواء في ليلٍ عبثَت فيه الرياح حتى الثمالة .
خرجتُ إلى هذا العالم مرة أخرى ، وليتني لم أخرج ، كل شيء هنا تبدل ، مبادئ كثيرة إندثرت ، ووجوه كثيرة أصبحَ لها شأن ، وبالأمس ما كانت تُذْكر، كل شيء تغير، حتى الموت أصبحَ له حضورٌ يومي ، وباتَ لا يعرف المرء الآن .. .لماذا يُقتل ، ليتني لم اخرج ، ليتني بقيتُ في سجني ، أريد الرحيل هكذا جاءني من يهتفُ في أذني ، إرحل يا فتى ، إرحل بعيداً لعلكَ تنسى بعضاً من جراحاتك والآمك ، إرحل ولا تنظر إلى الوراء ، إرحل قبل أن يحين أجلك ، لعلكَ تعرفُ يوماً لا تعرفُ فيه شقاء...
بقيتُ طوال الليل أفكر في هذا الكلام ، جلستُ تحت شجرة زيتون عمرها مئة عام ، اسأل أين المفر وأين سأرحل ، بقيتُ شارداً لا أعرفُ جواباً ، ثم إتكأت على جذع الشجرة ونمتُ نوماً لم أعرف مثله من قبل ، ثم إستيقظتُ على صوت أمي وأنا أحتضن شجرتي فعرفت الجواب الآن ...
لا... لن أرحل...