بحر في أعماقي
سيرة كائن مائي
بين أحضان النيل والبحر ولد منزلنا ، فاستلقت عليه ضفافي بشريط أخضر يعانق قلوب أسرتي الدافئة ، نشأت بينهم في أرض تتنفس رائحة الخشب العنبري الذي يحمل الملامح المحفورة على جسد الرزق بورش النجارة الصغيرة ، هاتفتني الطبيعة منذ لحظة وعيي من خلف غياهب القدرة الإلهية الواقعة عند حدود الشعرة الفاصلة بين العذب ، والمالح ، و بين الصخب ، والهدوء ، وبين الرمال ،والطين ، لأتعلم من هواجس البيئة ماهية التذوق ، أقف على الخطوط الملونة للشمس السابحة بأطراف البحر الممتدة ، أفرد كفي الصغير لأحجبها عن العالم الكبير ،فأشعر بكياني المستمد من تلك القدرة ، تشرق شمس أخرى تغزل حرفي الأول على قصاصات من الورق ، أطيرها بالهواء لتعلق بأرجل النوارس المهاجرة للعالم الآخر ، أؤمن دائماً بأن هناك عالماً آخر يكمن خلف حدود البحر الغائرة ، جرفني إلى البحث عن وجوه الصفحات بمحاولات تائهة بين خواطر النفس المشحونة بطاقات الكلمات المترجمة لبيئتي المائية ، و كانت البداية لكلمات تتلاعب على سلالم بيوت الشعر ، انطلقت بها مع شعراء مدينتي إلى المدن والقرى المجاورة ، لكني شعرت أن الطاقة الكامنة مازالت تختزل الكثير والكثير ، وجدتني أنجذب بها نحو الشتاء ببرده القارس الذي يجمع الأسرة بأكملها ، حول حكايات جدي – رحمه الله – فكنت أخرج من رحلة استمتاعي بجسر يربط حاضر كلماتي الحائرة بالماضي المسطور على جباه التاريخ.
غرفتي الصغيرة هي ملاذ أحلامي المخلوطة بحبر قلمي الأسود ، ينتشر عبر أثير المذياع الخشبي ، فأشارك أبناء مدينتي صفحاتهم الشهيرة، عشت مع ( طاهرأبو فاشا) آلاف الليالي بقصور شهريار ، تمنيت أن يتنازل لي عن شهرزاد ، فأقطع رأس الديك لتستمر معي بلياليها الملاح ، غصت مع (فاروق شوشة ) بأحشاء لغتنا الجميلة حتى تحولت بحور الشعر بمجراها لتصب ببحر مدينتي دمياط ، ارتمي على مكتبي بأطراف الغرفة ، أجذب جواريره لأحرمه من نومه العميق بركنه المميز جوار النافذة ، أحتسي رشفات من قهوة الحبر ، بفنجان من ورق ، يشبه تماماً قواربي الورقية التي تركتها تسبح منذ عشرات السنين تصارع خيالاتي الهائجة ، أُصَبح أخي (د. أيمن) على حصاد ليلتي الماضية فيمدني بمجاديف جديدة لقاربي الخشبي لأكمل سيري نحو الشاطئ المفعم بحكايات جديدة ، أنهمها من طواجن أبي العسكرية ، المطبوخة بتجارب حرب الاستنزاف ، و انتصارات أكتوبر ، آكل من لحوم حكاياته اللذيذة ، وأهرب من عظام أرقامه المدونة بدفاتر عمله بأحد البنوك ، كم أمقت كل الأرقام، وكم أحب كل أحرف اللغة العربية ، ما أجمل أحرفها ، من الألف حتى الياء ، أعشقها تلك اللغة التي شاركتني أحلامي ، وواقعي ، فكانت مصدراً للثناء على من مدرسيها عبر مراحل تعليمي ،( الأستاذ جمال عبد الواحد ) اسم لا أنساه ما حييت ، مدرس اللغة العربية العاشق الذي دفعني دفعاً نحو المواصلة ، كانت الانطلاقة الأولى من هذه المرحلة ، مرحلة الثانوية العامة ، حملت المنهج لأحدد معالمه ، فكانت القصة هي الطفلة الجديدة التي ولدت لتحمل كلماتي ، و التي وثقتها مرحلة الجامعة حيث التخصص في اللغة العربية وآدابها ، سرت أعانق مسرحيات الحكيم ، و أرفع الكتب عن الجاحظ ، و أستنشق رومانسية عبد الحليم عبد الله ، أتنزه بأزقة نجيب محفوظ ، ثم فتحت نافذة غرفتي على مصراعيها أمام رياح الغرب الآتية بأسرار أجاثا كريستي ، وشخصيات ديكنز ، وحب ماركيز ،عبرت النافذة لأزيح الستار عن القمر الساجد في معابد المياه من حولي ، يستدير معه قلمي بوجه حبيبتي الغائبة ، ويتسلق جبال طموحاتي المنتظرة ، ذابت المرحلة الجامعية على صفيح الواقع الساخن ، فقفزت غفلتي من فراش العالم الآخر على ضجيج عالم واحد فقط نعيشه ، تتعلق به همومنا التي تنتظر كلماتنا لتخرج من كهف النسيان ، إلى نور تتفتح عليه أعيننا ، كانت (جريدة يوليو ) هي المستقبل الأول للضيف القادم من جنات الياسمين ، فعبرت الحواجز القاتمة ، أكتشف ما خلف المكاتب الفارهة ، لأخرج رأس السلحفاة يراها الجميع ، لكن أصرت هواجسي الأولى ألا تتركني ، لتلح على بالحكايات القديمة ، عاتبتني غرفتي ، وتعطل مذياعي ، ليذكرني صمته بليالٍ قضيتها على همسات (البرنامج العام) ، فانكمشت الخيارات أمامي لخيار العودة لطفلتي ، أرسم بين سطورها شوارعنا الضيقة ، و بحار الدموع المكتظة خلف أبوابنا المتهالكة ، تنتظر لقمة عيش آتية دون موعد سابق ، أو تجفف دماء ارض ابتلت بأجساد أبنائنا من أجل الحرية .
شاءت الأقدار أن أرتفع يوماً بالهواء ، قرب أجنحة النوارس ، وفوق أشرعة المراكب المسافرة ، لأحط بقلمي على قلب تلك المدينة (الكويت) ، حمدت الله كثيراً أن الكائن المائي لن يموت مختنقاً ، أجدد أنفاسي من مياه الخليج كل يوم ، و أقرئ بحر مدينتي السلام ، أغازل الأمواج الآتية بعبق روائح الخشب ، أشمها فأنتشي ، أخط وجه طفلتي على رمال الشاطئ كل ليلة ، حتى تجمدت دموعها فكانت (لوزات الجليد ) مجموعتي القصصية الأولى ، الصادرة عن مركز الحضارة العربية – القاهرة 2006،التي احتفت بها جريدة القبس الكويتية ، ومازلت أرسم وجه طفلتي على رمال شاطئ الخليج لأبني منها (أهرامات الضحك) مجموعتي القصصية القادمة ، والتي ستصدر عن نفس الدار ، و تواضعت أحلامي كثيراً مع أحلام الشاعرة (سعدية مفرح ) فكنت أعكس هواجس غربتي على مرآتها المستلقية بصفحتها التي احتوتني ،وإذا بي استيقظ يوماً على شاردة من شوارد الشاعر (مدحت علام ) ،التي استقبلت نقوشي الباقية للمرة الأولى على صفحات الرأي العام ،وتمتد رحلة الدفء من العالم الافتراضي بملتقى (رابطة الواحة الثقافية) ، الموقع الحلم الواقع على مقاهي الخليج بصحبة ترفرف حولها الكلمات المحلقة ، لأرى مدينتي أجمل مدن العالم ، وأرى زوجتي أجمل نساء الكون ، وها أنا الآن أرسم وجه طفلتي (حنين) على الرمال ، لتعانق طفلة قلمي القادم إليها ، لتستقبلني أمي بأحضان الوطن في ميناء السفينة العائدة وعلى متنها الكائن المائي .
محمد سامي البوهي