"حلوق حارة"
تطلع النوخذة " صالح " إلى المياه التى أذابت في شفافيتها لون السماء . و هي تداعب جنبات السفينة الثابتة في مكانها منذ أيام ، بعرض البحر . يتكسر اللون الأبيض و الأزرق مع الطحالب الطافية . السكون يتحرك من أعماق الماء طافيًا . يحلّق إلي الكون الانهائي ، فيكسوه بالصمت . يتأمل تجاعيد أصابعه المتشبثة بأحد حبال السفينة .
يداه السمراوان بفعل لفح الشمس ، تعكسان مرور السنين . منذ حادثته مع الأمواج ، روى له أبوه كيف ألقي به في البحر ولا تزال براءته عمرها شهور . صرخت أمه و استحال لونها مثل " الكركم " ، و فغرت فمها ، و الدموع تملحت بعينيها . قال الأب : " ستحفظه الملائكة يا " أم صالح " و سيباركه البحر " .
ظل يتهادى على الأمواج و طمأنينة تُسيّل نفحاتها حولـه ، فتحيل بكاءه إلى انبساط ، ثم أطلقت أمه زغرودة .
رفع بصره للسماء ، سحابة تتجمع في بطء تتأرجح مترددة في تلاقيها ؛ فلا ريح . أشرعة سفينتهم تستجدي كتل الهواء ، يديرونها للجهات الأربع و هي في انتصابها بنسيجها المفرود و البحـارة يتسمّـرون منذ تنفس الفجر ، و يستمرون مع تلظى الشمس رويدًا . . . رويدًا ، و حين تتمركز الأشعة السماء يهربون إلى باطن السفينة. . ولكن “ النُوخَذة “ يبقي متعلقا بالحبل ، مبتسمًا للسماء ، يناجيها ، و اللسان صامت ، و المآقي تتقلّب ، فاليقين يجري بدمائه منذ نعومة أنامله ،
صهريج الماء يتناقص بمرور السويعات ، يتجمعون على رشفات منه محسوبة ، طعامهم أسماك ، لازمت أنوفهم رائحة شوائها دومًا ."
تتسرب الساعات . . و الأيام و الماء . . بضع سنتيمترات . . قطرات . . ثم . . . اهتزت الأحداق . ."
أشار نحو المخزن ، قائلاً :
- تركنا هنا بضعة آلاف من ثمار جوز الهند ، التي شحناها من إحدى الجزر ، وزعوا الثمرات ، كل بحّار له واحدة في يومه . . يرتشف عصيرها .
تدافعوا ، بنهم في امتصاصها . . هل ستكفي ؟
بحّار يلقي بثمرة فارغة في الماء ، يرميها بقوة ، تطير ، هل يراسل بها الريح الخامدة ، هل يهمس بها للهواء . . ؟ . . يفصح بها عما في صدره ؟
صاح فيه ، و فيهم :
- حافظوا على الثمرات الفارغة .
كومتان لجوز الهند : كومـة تتنـاقص و أخرى تتـزايد .
السويعات بطيئة في سكونها ، الليل سواده ممزق بأنجم سهرت على مناجاة صدورهم و انفلات ذكرياتهم . . هناك على الشاطئ ، أولادهم و بناتهم يتأملون الأفق في نقطة التقائه بالأمواج ، علّه مع بزوغ شمس أو أفولها تظهر نغمات أشرعة سفينتهم العائدة ، فتنطلق صرخات الفرح . . ثم ترتمي الأجساد الصغيرة على صدور الآباء السمراء ، و يغدون لأكواخهم حيث أزواجهم في حبور ، و أمهاتهم قبضن طوال فترة الغياب على أفئدتهن ، في حين رسمت وجوههن رباطة الجأش .
يتسلل " صالح " من مخدعه ، يتنسم الهواء المشبع بالرذاذ ، يستشعر طعم الرطوبة في رئتيه . يبلل وجهه و مرفقيه و قدميه ، يستطعم ملوحة الماء بين شفتيه ، . . . يطيل ركوعه ، يصمت في سجوده تاركًا دقات فؤاده تعلو . . . .
كومة الثمرات الفارغة ارتفعت و الأخرى تلاشت ، تحلّقوا حوله . . كلمات “ النُوخَذة “ قليلة :
- ليس أمامنا سوى الشموخ ، سنشعل الثمرات الفارغة ، بعد تجفيفها و نقوم بتقطير ماء البحر ، و لا يزيد الواحد في شربته عن رشفة واحدة و له نصف كوب في اليوم .
الصبر عقد مآقيهم ؛ فثبتت تطالع البخار المتصاعد من القدر و المتكاثف على لوح نحاسي ، القطرات تنزلق على اللوح تحمل كل قطرة حياة ، أحشاؤهم تخرج حرارة تلفح وجناتهم ، تعالى غضب الشمس . كومة الثمرات تتناقص .
تفلتت الليالي ، الذكرى تجثم على النفوس ، الكلام محتبس ، زفير طويل ملتهب . الكومة . . . . صارت رمادًا .
على ظهر السفينة استلقوا ، يرطبون شفاههم بالماء المالح ، ركوعهم و سجودهم في جلوسهم . . تُستَحرّ المناجاة على الألسن .
" صالح " ، دقات فؤاده صاخبة ، مع كلمات أبيه التي ترن في مسامعه ، الآن :
" الملائكة ستحفظك ، و سيباركك البحر " .
يستشعر هفهفات أجنحتها تداعب روحه .
يركعون و يسجدون بجفونهم ، و الأحداق تناجي ، و الشفاه ابيضت لترسب الملح عليها ، . . يضحك " صالح " الأجنحة البيضاء تحمل البشرى ، رذاذًا باردًا يقطر في فمه ، يتجلى أبوه بنظراته الحانية .
دفقات الريح ، السحب تتجمع تتزاحم في طبقات ، المطر يغرق ثيابهم ، يذيب ملوحة أفواههم ، يتوغلها ليرطب الأحشاء .
كتل الهواء تملأ الأشرعة . الجفون تستسلم مع اهتزاز السفينة التي تمخر الأمواج ."
"أرواح فى حلوق"
دراسة نقدية تحليلية عن قصة"حلوق حارة"
للأديب الرائع: د.مصطفى عطية
"تطلع النوخذة " صالح " إلى المياه التى أذابت في شفافيتها لون السماء . و هي تداعب جنبات السفينة الثابتة في مكانها منذ أيام ، بعرض البحر . يتكسر اللون الأبيض و الأزرق مع الطحالب الطافية . السكون يتحرك من أعماق الماء طافيًا . يحلّق إلي الكون الانهائي ، فيكسوه بالصمت . يتأمل تجاعيد أصابعه المتشبثة بأحد حبال السفينة ."
المدخل التمهيدى للقصة وهو يعكس براعة القاص فى توظيف اللغة تبعا لحالة بطله الشعورية, وهنا يعطى القاص ايحاء وفكرة غير واضحة المعالم للمتلقى ....والتى سيكتمل وضوحها باكتمال السرد.
"يداه السمراوان بفعل لفح الشمس ، تعكسان مرور السنين . منذ حادثته مع الأمواج ، روى له أبوه كيف ألقي به في البحر ولا تزال براءته عمرها شهور . صرخت أمه و استحال لونها مثل " الكركم " ، و فغرت فمها ، و الدموع تملحت بعينيها . قال الأب : " ستحفظه الملائكة يا " أم صالح " و سيباركه البحر " .
ظل يتهادى على الأمواج و طمأنينة تُسيّل نفحاتها حولـه ، فتحيل بكاءه إلى انبساط ، ثم أطلقت أمه زغرودة ."
هنا يعود القاص فى لمحة فلاش باك غير متوقعة – ييسير للخلف فى ذاكرة البطل. وقد وجدت هنا أن اللمحة قد طالت كثيرا من الكاتب, فقد كانت تحتاج بعض التكثيف, فقوة اللقطة تكمن فى الهدف منها وليس فى اطالتها. و ينبغى الاشارة هنا الى أن الكاتب كان يهدف من لقطته الى التمهيد والايحاء الرائعين للخاتمة.
"رفع بصره للسماء ، سحابة تتجمع في بطء تتأرجح مترددة في تلاقيها ؛ فلا ريح . أشرعة سفينتهم تستجدي كتل الهواء ، يديرونها للجهات الأربع و هي في انتصابها بنسيجها المفرود و البحـارة يتسمّـرون منذ تنفس الفجر ، و يستمرون مع تلظى الشمس رويدًا . . . رويدًا ، و حين تتمركز الأشعة السماء يهربون إلى باطن السفينة. . ولكن “ النُوخَذة “ يبقي متعلقا بالحبل ، مبتسمًا للسماء ، يناجيها ، و اللسان صامت ، و المآقي تتقلّب ، فاليقين يجري بدمائه منذ نعومة أنامله ،
صهريج الماء يتناقص بمرور السويعات ، يتجمعون على رشفات منه محسوبة ، طعامهم أسماك ، لازمت أنوفهم رائحة شوائها دومًا ."
يبدأ القاص فى التعمق فى حبكة العمل بالسرد الجميل المفرز لمعاناة الشخوص المعرضين للضياع والموت فى بحر لا نهاية له.
"تتسرب الساعات . . و الأيام و الماء . . بضع سنتيمترات . . قطرات . . ثم . . . اهتزت الأحداق . ."
تعبير رائع من القاص يختزل به فى ومضة رائعة رحلة معاناة كاملة بتكثيف غاية فى الابداع لم يفقد بالرغم من شدة تكثيفه وصف الحالة.
" أشار نحو المخزن ، قائلاً :
- تركنا هنا بضعة آلاف من ثمار جوز الهند ، التي شحناها من إحدى الجزر ، وزعوا الثمرات ، كل بحّار له واحدة في يومه . . يرتشف عصيرها .
تدافعوا ، بنهم في امتصاصها . . هل ستكفي ؟
بحّار يلقي بثمرة فارغة في الماء ، يرميها بقوة ، تطير ، هل يراسل بها الريح الخامدة ، هل يهمس بها للهواء . . ؟ . . يفصح بها عما في صدره ؟
صاح فيه ، و فيهم :
- حافظوا على الثمرات الفارغة ."
حوارية جدلية وصفية تظهر كيفية انقضاء أوقاتا أخرى على سفينة الضياع.
"كومتان لجوز الهند : كومـة تتنـاقص و أخرى تتـزايد ."
تعبير آخر غاية فى الروعة جاء فى تناقض رائع يعكس رحلة زمنية كاملة, فتناقص الكومة دليل على انقضاء أيام من الجوع والألم , وتزايدها دليلا على تناقص أيام الحياة الباقية.
" السويعات بطيئة في سكونها ، الليل سواده ممزق بأنجم سهرت على مناجاة صدورهم و انفلات ذكرياتهم . . هناك على الشاطئ ، أولادهم و بناتهم يتأملون الأفق في نقطة التقائه بالأمواج ، علّه مع بزوغ شمس أو أفولها تظهر نغمات أشرعة سفينتهم العائدة ، فتنطلق صرخات الفرح . . ثم ترتمي الأجساد الصغيرة على صدور الآباء السمراء ، و يغدون لأكواخهم حيث أزواجهم في حبور ، و أمهاتهم قبضن طوال فترة الغياب على أفئدتهن ، في حين رسمت وجوههن رباطة الجأش .
يتسلل " صالح " من مخدعه ، يتنسم الهواء المشبع بالرذاذ ، يستشعر طعم الرطوبة في رئتيه . يبلل وجهه و مرفقيه و قدميه ، يستطعم ملوحة الماء بين شفتيه ، . . . يطيل ركوعه ، يصمت في سجوده تاركًا دقات فؤاده تعلو . . . .
كومة الثمرات الفارغة ارتفعت و الأخرى تلاشت ، تحلّقوا حوله . . كلمات “ النُوخَذة “ قليلة :
- ليس أمامنا سوى الشموخ ، سنشعل الثمرات الفارغة ، بعد تجفيفها و نقوم بتقطير ماء البحر ، و لا يزيد الواحد في شربته عن رشفة واحدة و له نصف كوب في اليوم .
الصبر عقد مآقيهم ؛ فثبتت تطالع البخار المتصاعد من القدر و المتكاثف على لوح نحاسي ، القطرات تنزلق على اللوح تحمل كل قطرة حياة ، أحشاؤهم تخرج حرارة تلفح وجناتهم ، تعالى غضب الشمس . كومة الثمرات تتناقص .
تفلتت الليالي ، الذكرى تجثم على النفوس ، الكلام محتبس ، زفير طويل ملتهب . الكومة . . . . صارت رمادًا .
على ظهر السفينة استلقوا ، يرطبون شفاههم بالماء المالح ، ركوعهم و سجودهم في جلوسهم . . تُستَحرّ المناجاة على الألسن .
" صالح " ، دقات فؤاده صاخبة ، مع كلمات أبيه التي ترن في مسامعه ، الآن :
" الملائكة ستحفظك ، و سيباركك البحر " .
يستشعر هفهفات أجنحتها تداعب روحه ."
فى وصف رائع هنا يدخل الكاتب فى مراحل تمهيدية, واصفا بها رحلة المعاناة مع الجوع والضياع والألم , حتى يصل الى أقصى درجات التصعيد بالدخول فى حالات هزيانية بين الواقع والخيال.
"يركعون و يسجدون بجفونهم ، و الأحداق تناجي ، و الشفاه ابيضت لترسب الملح عليها ، . . يضحك " صالح " الأجنحة البيضاء تحمل البشرى ، رذاذًا باردًا يقطر في فمه ، يتجلى أبوه بنظراته الحانية .
دفقات الريح ، السحب تتجمع تتزاحم في طبقات ، المطر يغرق ثيابهم ، يذيب ملوحة أفواههم ، يتوغلها ليرطب الأحشاء .
كتل الهواء تملأ الأشرعة . الجفون تستسلم مع اهتزاز السفينة التي تمخر الأمواج ."
خاتمة أكثر من رائعة استفزت خيال المتلقى الى أبعد حد, فالتعبير هنا يضعك أمام تفسيرين كلاهما صحيح. الأول نجاتهم فعليا, الثانى موتهم. واللغة هنا والتعبير يخدمان فى إبداع كلا التفسيرين فيوسع بذلك الكاتب خيال القارىء مما يعد نجاحا للقاص والقص.
التعقيب النهائى:
القصة هنا مصاغة، غالباً، بطريقة الحوار غير المباشر، من خلال تقديم السارد نفسه بسرد حكاية أساسية داخل النص ثم مزج سرد آخر جانبى داخل نفسية الشخوص وخاصة شخصية البطل, فكان العمل سرد خالص مغلف بغلالة رقيقة من سرد القصة النفسية الحديثة التى تعكس لنا النزعة الباطنية البعيدة الغور فى المنطقة الشائكة بين الحياة والموت. ونحن نرى هذا الانعطاف الذاتي معكوسا في أحاسيس شخوص القصة ويتكثف بصورة كبيرة فى احساس بطل القصة المنعكس على سيكولوجية التفكير الكلى للقص.
اكتسب السرد في بعض الأركان سمة حوارية جعلت بالإمكان تحويله الي حوار من دون أن يحدث ارتباك في البناء والدلالة، لأن الحوار ارتبط ارتباطاً بنائياً بالسرد. فى العمل أيضا اصطحاب الحوار للسرد في جميع مراحل تطوره في كثير من أماكن القص، الذى كان نامياً من خلال السرد، ومرتبطاً به بعلاقة متصلة. وقام السرد بدور تبادل المنفعة مع الحوار في تفاعل وانسجام لكسر التعاقب المتسلسل المثير للإيقاع الرتيب الناشئ عن تناوب سرد الواقع ووصف جوانية الشخوص. من كل ما تقدم نشأت علاقة بين سرد يقوم به الراوي الأساسي للحدث، وحوار يوازي السرد في مصاحبته له، من دون أن يلتقي به، فكون لكل منهما نهاية مختلفة عن الأخري، ولو كان جري استخلاص السرد النفسى الشعورى من الحوار وفصله لنتج قصة ذات طبيعة سردية خالصة. ولا يجوز بحال الانتهاء من التعقيب دون الاشارة الى روعة أدوات الكاتب القصية ودقة حبكته الدرامية, بدءا من عنوان مناسب للحدث ودخولا فى القص وتصعيدا رائعا للحدث ثم انتهاءا بخاتمة مميزة قوية.
شذى الوردة لهذا الرقى
د. نجلاء طمان