سَفَر في الروحفتحت الصديقة وزوجها الباب بابتسامتين مرحبتين ، فيما كانت تسرع نحو الشرفة متجاهلة يد صديقتها الممتدة للمصافحة.
- لا وقت . قالت وهي تسحب لنفسها مقعدا وتجلس في مواجهة القمة الحرجية المقابلة بانتظار مشهد الغروب الذي سيبدأ بعد دقائق .
أخذت تتأمل الجبل الغربي المقابل بارتياح .قمة شاهقة ترتدي قلائد من الأشجار الداكنة الخضرة ، التي يختزن لونها رائحة النسغ في عروقها.تلك الرائحة العطرية التي تثيرها نسمات رقيقة تلامس الأوراق الرفيعة أو الأغصان ذات الانحناءات التي تقترح مجسمات حية لأشخاص وحيوانات هبطوا من مجرة أخرى.ها هي تكاد ترى تلك الجذوع المعمرة وقد تعرت بعض أجزائها من اللحاء الذي كان يكسوها ، فبانت جذورها المضيئة . إنها تحفظ هذه التفصيلات عن ظهر قلب فقد كانت هناك مرات ومرات ، وأصابعها لمست كل شيء واحتفظت بآثار لا يمحوها وقت.ها هي الآن تغمض عينيها انتشاء بعطر الطبيعة البكر.كانت مستغرقة في صلاة وتسبيح لمبدع هذا الجمال عندما انتشلها واقع سطحي ما انفك يعترض اندفاعاتها تلك دون تبرير ، فقد تسللت إليها بعض الهمهمات الخافتة المختلطة ، ميزت منها صوت الصديقة وزوجها وصوتا آخر غير مألوف .فتحت عينيها لترى يدا ممدودة لمصافحتها ، فمدت يدها وهي تنظر لصاحب اليد فوجدته رجلا مسنا طويل القامة يحمل أزمانا فوق ملامحه تماما مثل تلك السنديانات ، إلا أن قمته بخلاف القمة المقابلة ، خلت من غاباتها ، وها هي تلتمع بفعل أشعة ما قبل الغروب .
اتخذ الرجل لنفسه مقعدا وهو ما يزال يحتفظ براحة يدها في راحته الكبيرة التي تشبه كهفا دافئا ، مما جعلها تحاول استردادها عندما فاجأها بطلب غريب :
- دعيها كفك . أريدها.
نظرت إليه بدهشة وارتباك فعاجلها بنظرة مريحة وحانية:
- - لا أريد سوى النظر إليها ، لا تخافي ، لن آكلها . وضحك بمرح غير متوقع، فابتسمت وهي تستل يدها من يده قائلة إنها لن تفعل هذا لأنه يتنافى مع معتقداتها ونمط تفكيرها ، فهز رأسه مبتسما ومتفهما ، بينما رشقت صديقتها بنظرة جعلت الأخرى تضحك
- لم تحاول النظر إليه، إلا أنها كانت تحس بنظراته تخترق رأسها لتنطلق بعيدا إلى القمة المخضوضرة ، ثم تنحدر إلى السفوح فتستعرضها كلها ، ثم ترتد إليها ثانية مرورا بالطريق السريع أسفل الشرفة.
- جاءت القهوة فأحست بارتياح ، وترافق قدومها مع بشائر الشفق ، واحتفالية القمة الغربية باحتضان القرص المتوهج ، وشده إليها من علياء سمائه ، كي ينام ليلته مرتاحا ليبدأ رحلة الضياء في الصباح الآتي في قمة مقابلة . كانت الأسرع في شرب القهوة ، فهي تحب البارد باردا والساخن ساخنا ، وما أن وضعت فنجانها على حافة الشرفة حتى امتدت الأصابع الطويلة إليه واحتوته تماما بحيث اختفى في يده ، ثم نظر إلى الفضاء وقد غامت عيناه ، وجاء صوته كأنه من عالم آخر ، متسائلا مرة ومقررا مرات ، حازما وحانيا وواثقا.
- - لست عرافا فلا تستائي ، ربما هو نوع من الفراسة اكتشفته في نفسي منذ طفولتي ، ولا يحتاج إلا لنوع من التواصل المباشر للحظات وها أنا ألمس فنجانك الذي كان بيدك.
- نطق باسمها فجأة وأخبرها بعمرها .فتظاهرت بعدم الاكتراث
- ثم نظرت بارتياب إلى صديقتها التي هزت رأسها نافية للتهمة.
- بينما جاء صوته:
- - ألن تسألي ماذا قالت لي يدك؟
- لم ينتظر جوابها فقد كان متأكدا أنْ لا جواب هناك . قال إن الأمر يتعلق بيديها وأصابعها ونوع الفضاءات التي تجوسها .
- كان يبدو غريبا وكأن روحه انفصلت عنه وحلقت في مكان ما .
- - أراك تقفين في قاعة محكمة وحولك قضاة كثر ، لكن أنت وحدك ، والقاعة أشبه ما تكون بصالة مدرج أثريّ ، وهم يفترشون المدرج حولك وأنت في منتصف الصالة وحدك تحاكَمين ولا قضية .أنت تدركين هذا ويدركون ، لكنهم يريدون أن تنسحبي لأماكن ليست لك ، بل لا تتسع لأحلامك ورؤاك.هم يدركون أن القاضي هو أنت وهم المتهمون ولكن لا يعترفون.
- في عرفهم لا يجوز ليديك أن تقترفا جريمة البحث عن الجمال الخبيء واكتشاف كنهه ، أما أن تقترف اليدان جريمة قتل فهو في عرفهم أمر مفهوم وله تفسير.
- وقفت مستأذنة، ودون أن يلحظها غادرت الشرفة على وقع صوته الذي بدأ يخفت أكثر كلما ابتعدت خطوة باتجاه الباب .
- - اسأليهم يا ابنتي :
- هل رأيتم جنينا لرحم أمه يعود؟ أو بصيرا لمملكة عماكم يرود؟ هل سمعتم عن روح حرة لسجن الجسد تؤوب؟!
17/3 /2007