أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 11

الموضوع: لحن حزين

  1. #1
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    المشاركات : 320
    المواضيع : 85
    الردود : 320
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي لحن حزين

    لحن حزين


    " يما ودعيني قبل ما امشي...
    ولا تدري بعثراتي وانا امشي ".

    أغنية طويلة كان والدي – رحمه الله – يشدو بها بين الحين والاخر، بنبرات مصدورة مجروحة، ولكني لسوء الحظ، لا اذكر منها إلا مطلعها هذا، لكنها كانت منذ بدايتها وحتى نهايتها تغرق في حزن عميق يسكن الكلمات ويفيض بشجن المعاني، وكان كل مقطع من مقاطعها يعود لصدر الأم التي نفقت في ذات اليوم الذي ولد فيه ابنها، في نفس اليوم الذي ولد فيه أبي.

    وهذا ما دفعني للتفكر والتأمل بعلاقة الأم والولد، الأم التي غيبها الموت تحت التراب في ذات اللحظة التي خرج وليدها من بين حجب ظلمات ثلاث ليتنسم رائحة الحياة وعبق الوجود، ولكن، لم تكن كل التحاليل العقلية والذهنية قادرة على منحي نوعا من الاستقرار المعرفي الذي كنت انشده، فالعقل أحيانا يعجز وبصورة مطلقة عن صياغة تفاعلات وتناقضات النفس البشرية المعقدة التركيب والعصية على العلم المخبري الذي يستطيع أن يصوغ قواعد لمنطق التجربة المجردة.

    اقتربت من والدي ذات يوم وسألته، كيف تغني لامك وأنت لم تراها، وحتى انك لم تلامس جسدها أو تتشرب من حنانها، هي ذهبت فور مجيئك، وليس هناك ما يربط بينك وبينها إلا لفظ الأم فقط؟


    قال...

    يابا، الأم ليست بالرؤيا، وليست باللمس، الأم في القلب، في الوجدان، في العمق، يابا، الأم هي الشكوى والأنين، هي الحزن والشجن، هي العذاب والألم، الأم يا ولدي جمل المحامل الحقيقي، أنا اسمي احمد بن حسنه، وحين أوضع في القبر سيأتي الملكان ليقولا يا احمد يا ابن حسنة، وحين ينادي علي الله يوم القيامة سينادي علي باسمي واسم أمي،أنا لا اعرف أمي، هذا صحيح، ولا اعرف ملامحها وهيئتها، ولكني اشعر حين يطبق الألم على قلبي بكل نواجذه وثقله، اشعر بانزياح لساني نحو لفظ الأم، وانجذاب قلبي نحو عاطفة خفية، مجهولة التكوين والملمس، مجهولة الدفق والنبع، تجتاحني، لتغرس بكياني نوعا من عاطفة مطمئنة، فيها عذوبة الندى، وصحو الرذاذ، فيها عبير الياسمين وسكينة الفل والنرجس.

    هي الأم... تأتي رغم غيابها، رغم وجودها تحت ثقل الموت والتراب والزمن، رغم ولوجها عالم الصمت المتصل باللانهاية، باللامحدود، تأتي لتعزف ألحانها على روح ولدها المُعَنًى، الموغل بالألم منذ ميلاده، وحتى تنقضي الأنفاس الاخيره، تأتي لتمسح بقلبها النابض من خلف غلالات الموت تفطرا ولوعة وحنينا، على كل خفقة الم، أو نبضة خوف، أو زفرة حزن وكمد، آه يا ولدي، يا قطعة من كبدي، لو تعلم مقدار الشوق المتجدد الذي احمله بكياني لك ولأخوتك وأخواتك، فقط، لو كان بإمكانك أن تعلم حجم الفرحة التي تهز كياني حين أرى بسمتك على وجهك، وحجم النار التي تستعر بكياني حين تهمي دمعة حزن أو ألم من عينتيك الصغيرتين، لكنت عندها تملك مقدار حبة خردل، من شوق الأم وفرحتها وحزنها على أولادها.

    أنا لم أشاهد أمي، ولكني استطيع أن أرى عينتيها وهما تزخان اللحظة المرافقة للغرغرة بالرجاء والتوسل، بالألم الخارق للوجود كله، بالحسرة المعتصرة من وخزات الروح وهي تنسحب من الأعضاء، عضوا خلف عضو، لتستقر في نواة قلبي وبؤرة روحي، لتنمو وتكبر، مع نمو قلبي وتقدم أيام عمري، لتسكن فيها وتتوزع، تنتشر وتمتد، كلما انتشر جسدي وامتدت روحي، تلك النظرة المسكونة بالحب والعشق الأزلي، ما زالت تقفز أمامي، بصورة واضحة، من جوف الغيب، ومن أعماق الروح، لتستقر في مركز نظري، فتبدو أمي أمامي، وهي تهز الأرض من تحت القبر، هزات خفيفة، ناعمة، فاشعر باهتزاز مشاعري وأحاسيسي، تتناثر وتتساقط من كياني المبلل بالألم والحزن والقهر، ثم أشاهدها وهي تنعقد كموجة تستعد للتبخر، لتصبح غمامة حبلى، يهمي ما فيها بقلب أمي الراقد تحت التراب.

    لحظتئذ اشعر بالفرحة تتشقق من قسماتها المرسومة بعقلي، كنت اعرف- معرفة اليقين – بأنها تتألم، لكنه ألم مجلل ومكلل بالفرحة والسعادة، لأنها استطاعت أن تحمل عني حزنا، لو استمر بقلبي، لأضناه وأهلكه، لكنه لا يستطيع أن يضني أو يهلك قلب أم مزروع في جوف الأرض والموت.

    وانهالت الدموع من عينيه الخضراوين، وبدأ يعتصر ألمه ليسكبه بجوفه، لكنه لم يستطع، فكادت روحه أن تتشردق، اقتربت منه، ولمست صلعته النقية، وانخفضت نحو قدميه، الثمهما بفمي ودموعي، لكنه رفعني، أوقفني قبالته، حدقت بعينيه من بين موج الدموع، فوجدت اللهفة تفيض كنهر بلوري، تعلو وتهبط، مع حركات القلب والنفس والدموع، غرت بأعماق هلامية، شعرت بالدنيا تتساقط في جوفي قطعا من نار تصلي ولا تحرق، لكنه انتشلني من قاع الذهول، حين سحبني إلى حضنه وطوقني بخفقات القلب ووجيب الروح.




    مأمون احمد مصطفى
    فلسطين – مخيم طول كرم
    النرويج - 2006

  2. #2
    الصورة الرمزية منى الخالدي أديبة
    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    الدولة : أرض الغربة
    المشاركات : 2,316
    المواضيع : 98
    الردود : 2316
    المعدل اليومي : 0.36

    افتراضي

    لحنٌ حزين

    يا الله
    العنوان وحده يحتاج وقفة
    فما حالنا مع النص

    سأعود مرة أخرى لقراءة أعمق أيها الأديب الرائع

    تحيتي وتقديري
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    شكرا للحبيبة سحر الليالي على التوقيع الرائع

  3. #3
    الصورة الرمزية وفاء شوكت خضر أديبة وقاصة
    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : موطن الحزن والفقد
    المشاركات : 9,734
    المواضيع : 296
    الردود : 9734
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    الأديب الأخ /مأمون أحمد مصطفى ..

    سأعترف لك ، بأني حين أنقطع عن نصوصك ، إنما أكون في حالة فرار من الألم ..
    حرفك دوما مشبع بالألم ، نشربه بغصة الملح ، ولكنه جميل واقعي قريب للفكر والعقل والمشاعر ،
    لذا تأثره على النفوس قوي وعميق ..

    دعنا نحصد معك الأشواك ، حتى نمهد الطريق للآتين من خلفنا .
    بوركت وبورك يراعك ..

    كل رمضان وأنت لله اقرب ..
    تحيتي وتقديري ..
    //عندما تشتد المواقف الأشداء هم المستمرون//

  4. #4
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Aug 2007
    الدولة : الإمارات العربية المتحدة
    العمر : 47
    المشاركات : 108
    المواضيع : 3
    الردود : 108
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    حقا حزين .
    بوح حمل كثيرا من الإحساس .
    دمت بخير وفلسطين كلها بخير

  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    مأمون العزيز...
    عزف اخر / عزف لم اعهده في نصوصك السابقة/ لانها بالجملة كانت تغوص في سيرورة وصيرورة الحياة السياسية ونتاجاتها السلبية على الاجتماعية الاقتصادية/ لقد اوقفني العنوان كثيرا/ حتى اني بقيت اذكره نع كل سطر وكلمة/ لحن حزين/ وما اكثرها تلك الالحان الحزينة التي لاتغادر ذاكرتنا/ ولاتغادر قبلها ذاكرة الحياة قبلنا/ واي لحن هذا/ لحن/ عزف على اوتار القداسة/ الام/ هل نكتب هنا شيئا/ عذرا/عذرا/ هي الام/ فاصمتوا يا بشر/ اصمتوا...!
    استرجاع محموم لذاكرة مليئة وتملئ/ لن ازيد...

    رمضان كريم

    محبتي لك
    جوتيار

  6. #6
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    الفاضل الكبير " مأمون "

    أي ألم حمله قلبك هنا ...!!! وأي غصة ..؟!
    تسربت أنفاس الحروف في الصميم كما قطرة الدم تتسرب...!!!

    لــ قلمك ينحني حرفي إحتراما وتبجيلا

    دمتـ بألفـ خير

  7. #7

  8. #8
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    المشاركات : 320
    المواضيع : 85
    الردود : 320
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    الاخت وفاء :-

    سالني احد الاصدقاء يوما ، ما فلسفتك في الحياة ، قلت ، للحياة فلسفة واحدة ، الالم .

    مع كل التقدير والمودة

  9. #9

  10. #10
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    العمر : 54
    المشاركات : 3,609
    المواضيع : 421
    الردود : 3609
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    الأم ليست بالرؤيا، وليست باللمس، الأم في القلب، في الوجدان، في العمق، يابا،
    نعم كلام في العمق وفي الوجدان
    شكرا لك
    فرسان الثقافة

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. يوميات مطر حزين
    بواسطة المطر الحزين في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 30-03-2010, 04:37 PM
  2. يوميات حزين ..( نميرة)
    بواسطة معاذ الديري في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 32
    آخر مشاركة: 28-07-2006, 06:31 PM
  3. عيد ... حزين... جديد
    بواسطة ابو نعيم في المنتدى النَادِى التَّرْبَوِي الاجْتِمَاعِي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 13-11-2004, 01:33 PM
  4. إلى روح الأخت مطر حزين/ختمة قرآنية
    بواسطة نهى فريد في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-10-2004, 10:25 AM
  5. شذرات قلب حزين
    بواسطة اشرف نبوي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 26-07-2004, 12:43 PM