إن أحببتني يوما
تكفيني..... نظرة ..وتطبق عليها الجفون
اجعلني... خفقة...و تهتز لها ....الضلوع
ودلل كل الصعاب الواهية...لأكون منك..ولك...لباسا
ومن نور يغمرك.... طيفا...شفافا
و تذكر...أبدا... لا تنسى...مهما الأيام
مهما الأهوال...مهما الأحوال
أنني... أنا...حبيبتك
ألوان الطيف
غرست رأس إبرة الحقنة في طرف سبابتها وجذبتها بسرعة فائقة، فانبثقت نقطة الدم، وقبل أن تفقد نضارتها وتتخثر لالتقائها بجزيئات الهواء..أسرعت تضعها فوق سطح قطعة الزجاج الصغيرة و تضع فوقها أخرى اصغر منها بحركة محكمة جعلت النقطة تنبسط انبساطا يفقدها لونها اليانع....أحكمت تثبيتها تحت عدسة المجهر..وبعد أن ضبطت الصورة...تراءت لها الأجسام الكروية الشكل...تسبح في سائل أصفر اللون...في أول الأمر...لم تر إلا هذا...كانت الورقة البيضاء تحت يدها اليمنى والقلم بين أناملها....ينتظران...خطت شيئا يشبه الدائرة....وعينها لا تفارق عينية المجهر..
" لحظة رجاءا...أبعدي يدك لأرى"....أبعدت يدها بسرعة ..ورغم أنها رفعت عينها من المجهر..كانت الصورة ما تزال مثبتة أمامها... مما جعلها لا تتبين بوضوح وجه من يكلمها...اقترب الرأس من المجهر...ورأت حركته السريعة بين الورقة التي خطت فيها و بين عينية المجهر...ثم عاود النظر إليها وقد لاحت في عينيه... نظرة استغراب..." لم أر يوما رسما كهذا للكريات الحمراء " ...وتبينت أخيرا وجه الأستاذ المساعد ... .
هبت نسمات باردة فأحكمت شد خمارها ورفعت ياقة معطفها لتحتمي منها، أسرعت الخطى، كانت الطرقات المبتلة شاهد على نزول أمطار خفيفة... و الغيوم المترامية في زرقة السماء..تنذر باقتراب هطول بقية منها،كانت ما تزال تتطلع على حد مرمى بصرها إلى السماء حين بزغت أشعة الشمس بين سحابتين تلتمس طريقها في حياء... الجو ما زال باردا..لكن رؤية رمز الدفء جعلها تحسه ولو إيحاءا....ثم أحست بقطرات رقيقة تلامس صفحة وجهها فاستعذبتها .... وحين...أوقفها على حين غرة كما يفعل بها دائما...تمتمت تعتذر في خجل للسيدة الصغيرة التي كانت تمشي وراءها وكادت تصطدم بها ....ثم رفعت عينيها في عتاب وهي تعاود السير وكـأنها تلوم هذا الذي يخلب لبها بألوان طيفه....و سرعان ما أضاءت وجهها ابتسامة وهي تتذكر كيف و هي صغيرة كانت تصدق والدتها حين تقول... انه كلما اجتمعت قطرات المطر بأشعة الشمس فذاك " عرس الذئب".
- نصف ساعة و أنا اكلمك....وأنت لا تريدين الجواب
لم تنظر إلى صديقتها ...لم يكن لديها جوابا...ولا تريدها أن تفسر أي نظرة منها على هواها
- طيب ..قولي لي..لم يأخذ كل ما ترسمين مما ترين في المجهر ويعلقه في مكتبه؟...مع أنني لا ارى فيهم شيئا إلا دقة في الخطوط
- لا ادري
- ولم لا تنظرين إلي؟
رفعت رأسها....فاحمرت وجنتاها وما كانت تخاف منه وقع...ابتسمت صديقتها ابتسامة ذات معنى
- أقال لك شيء؟... أبعث لك أحد؟
- لا شيء مما تفكرين به.. صحيح...لماذا تفسرين الأشياء بهذه الطريقة؟
- أنا لا أفسر على هواي...أنا ارى بوضوح....يقولون بانه أحب فتاة الى حد الجنون و كان لا يفارقها بنظراته
أحست بشيء في صدرها ونظرت الى صديقتها وهي تكمل حديثها غير مبالية بما تنسفه داخلها
- ..ويقولون كذلك انه طلبها للزواج لكنها رفضت وضع الحجاب....اتدرين...هو ملتزم....رغم ذلك
خرجت ابتسامة رغما عنها ...حزينة ، بائسة
- وما لي انا بهذا..ألا تغيرين الموضوع
حدقت فيها صديقتها: لن تقنعينني أنك لا تشعرين بشيء...عينيه لا تفارقانك طوال الحصة
كادت أن تصرخ في وجه صديقتها...لكنها نهضت وابتعدت عنها....اقتربت من النافذة..أحست بقشعريرة تسري في جسدها الموجوع بسياط الكلمات..والنظرات....لم تكن أشعة الشمس تريد الانسياب عبر سحابتين في خجل...كان غمام كثيف يملأ زرقة السماء...يخفيها...و زاد التلبد في السما....وسمع صوت الرعد... وانهمرت سيول من .....دموعها.
طوت كتاب الله في رفق شديد، و وضعته فوق مكتبها...أدارت رأسها إلى نافذة غرفتها حيث الزجاج بإطاره يلف لوحة تملأها شجنا مشوبا بسكينة زرعتها كلمات من عزيز جبار...فداوت جروحا في النفس طفيفة،... تتبعت ذيول الفجر وهي لا تزال متمسكة بأسهم الضياء....وفجأة ...وكما آخر قطرة من كأس الروية...انسابت في عجل لتملأ النفس قناعة برحمة ملؤها السماء و الارض......تذكرت الموشور الذي يتربع مكتبها منذ زمن...وأخذته في راحتها...افتر ثغرها عن ابتسامة ...اتسعت...و مخيلتها ترسم الشعاع المتدفق...نور الرحمن... الحب كله...يسكب في صفحة من صفحات الموشور...حقيقة.....يخترق داخله ...يتفاعل معه....ينعكس في طياته... انكساراته ....ويخرج من الجهة المعاكسة ....حقيقة ثانية...ساحرة...ألوانا... من الحب... مؤكدة.....انه ...نور ...على...نور.
"أتسمحين؟"...هزتها نبرة صوته...وابتعدت بضع خطوات عن صديقتها ...وفي غمرة كالحلم ...سمعت كلماته...وأومأت برأسها..ورجعت بنفس الخطوات إلى صديقتها.
- الآن فقط فهمت سر اهتمامه ...ومتى سيقدم رسالته...لم أتبين ما قاله في الأخير؟
- الأسبوع القادم
- طبعا...كان يعيش بين خوف ملح ورجاء ضئيل...وخشي أن ترفضي استعماله لرسومك...لذلك كان يراقبك...وصراحة...معه حق..أنت تبدين من عالم آخر...أتدرين...رؤيتك للخلايا
طفح الكيل: كيف من عالم آخر؟..ماذا تعنين بهذا؟....ألانني لم أبادله نفس النظرات....أم لأنني.......
واحتبست الكلمات...وقبل أن تظهر أول عبرة..كانت تدير ظهرها ..وتعدو مسرعة.
أخذت نفسا عميقا وهدأت خطواتها...وظهر لها فداحة ما وقعت فيه...أتراها أحبته؟....وهو لا يبالي بها...تبا لتلك النظرات...جعلت ألسنتهم تلفحها...وغررت بها...و كأنها تستهزئ بنفسها...هزت كتفيها...وأخيرا... حين تركت خيالها يتوه في دروب تخشاها...أخطأت نيتها...ابتسمت ابتسامة ..بائسة...تحولت الى عبارة ألم ..حين هبت نسمات باردة...وضربت صفحة وجهها قطرات المطر...وبين سحابتين..بزغت أشعة الشمس في حياء...ولم تستوقفها...ألوان الطيف الباسمة...بل جعلتها تقول في قرارة نفسها...ازددت هياما بك ..حين عرفت لونا آخرا منك.
سمعت طرقا خفيفا بالباب...كانت تخلع خمار صلاتها...ظهرت صديقتها...بوجه يصطنع التجهم:
- ولو انك لا تريدين الرد على الهاتف..ولا حضور المحاضرات...نأتي نحن...ونحضر المحاضرات نحن...والرسائل...نحن....
ومدت إليها ظرفا أنيقا....بهتت ونظرت اليه تارة والى صديقتها أخرى..." خذيه....لن يعضك...
تناولته و ارتعاش خفيف...متناسق تناسقا غريبا مع خفقان قلبها يهز أناملها....فتحت الظرف....وقرأت...
" أنت بين ضلوعي قلبا خافقا....أتسمحين...كوني لي زوجا...لباسا...قبسا".