أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: العقل العربي الإسلامي بين رؤى الماضي واحلام الحاضر

  1. #1
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    المشاركات : 320
    المواضيع : 85
    الردود : 320
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي العقل العربي الإسلامي بين رؤى الماضي واحلام الحاضر

    العقل العربي الإسلامي
    بين
    رؤى الماضي وأحلام الحاضر


    منذ زمن بعيد ، وأمنية عزيزة تراود ذهني ووجودي ، تدغدغ فكري وطموحي ، أمنية صغيرة ، صغيرة ، وهي أن امسك بكتاب أو أشاهد مناظرة علمية أو أدبية ، تفخر بما يملك الجيل الحاضر من مقومات وإبداعات ، بما يملك الجيل الذي أنا منه ، من ابتكارات وتأصيلات ، لكنها كانت ، وظلت ، ويبدو أنها ستبقى ، رغم صغرها وتواضعها ، أمنية عزيزة ، عزيزة إلى حد الندرة المغلفة بخبايا الأيام والعصور والأزمنة .

    والغريب الأغرب من الغرابة ، أنني كلما أمسكت بكتاب ، أو واجهت الرائي ، أو ألقيت أذني لمذياع ، أراني اسحب نحو الماضي ، الماضي الذي طوته الأيام بين صفحاتها منذ سنوات طويلة ، وأسكنت أهله التراب والمقابر ، بل وزادت على ذلك بأنها تخطتهم إلى عصور متسارعة سرعة الذرة والفضاء ، وكأننا نحن لم نشعر حتى اليوم بوجودهم في عالم مغرق في البعد عن عالمنا ملايين ملايين السنين الضوئية .

    فإذا ما افتخرت الأمم بفلاسفتها ، عدنا نحن نستنهض الماضي ، نستدعيه ، عدنا نطالب ابن رشد والفارابي وإخوان الصفا والغزالي وابن عربي والمعري ، للمثول بين يدي العصر ، لنعلن فخرنا بهم ، وبفلسفتهم ، وكأنهم أصحاب الحاضر الذي نحيا ، وكأنهم الفخر الذي أنتج جيلنا .

    وإذا افتخر العالم بأدبائه ، لهثنا خلف الجاحظ والمتنبي ، واستدعينا الحطيئة والفرزدق ، وابن الجوزي وابن حزم ، ونصبناهم على رأس عصرنا وكأنهم أحياء يرزقون .

    الماضي لا زال يعيش فينا ، يتحكم في مصائرنا ، يفرض علينا هيبته وسطوته ، يرسم لنا طرق تفكيرنا وتبعيتنا وتلقيننا ، وكأنه المكون الوحيد للأمة المعاصرة ، كما كان المكون الوحيد للأمة الماضية .

    ولكني لم أقع على كتاب واحد ، أو حلقة واحدة مشاهدة وسماعا ، تستطيع أن تتجاوز الماضي لتفخر بالحاضر ، مع أن الحاضر يمتاز بحاجته الدقيقة إلى أناس يمتازوا بقدرات تفوق قدرات أهل الماضي وإمكاناتهم .

    وحتى الطريقة التي اعتمدها الجيل الحاضر لتعليمنا الماضي ، كانت تقف على حافة الخشوع والتبتل لذلك الماضي ، فعلمونا بان المتنبي سيد الشعر العربي ، قديما وحديثا ، ولقنونا بان الإبداع وقف عند عتبات شعره ، وانه لم يبق مساحة لجديد مبتكر ، ولكنهم لم يعلمونا أبدا ، بان المتنبي كما كان سيد الشعر ، كان سيد الكذب والنفاق والخديعة ، وانه كان يبيع نفسه وروحه وشعره لمن يدفع أكثر ، لم يعلمونا كيف كان مداحا كاذبا ، ووضيعا إلى حد هجاء من مدح سابقا ، حين لم يحصل على مبتغاه من إمارة أو مال .

    لم يعلمونا كيف يمارس هدر كرامته ، واستنزاف ماء وجهه وكرامته ، لإرضاء الملوك والحكام ، وكيف مدح بالمال من لم يكن ليمدح لولا الثمن .

    لم يعلمونا بان مثل هذا الشاعر أجاد القول وفشل في الفعل ، أجاد البطولة شعرا ، وخسرها طمعا ، لم يعلمونا بان المداح من اجل الذهب والحكم ، هو ابعد الناس عن صفة الكرامة واحترام الذات ، بل وأبعدها عن كونه يستحق التقدير والاحترام .

    وزادوا على ذلك ، بان باعدوا بين خلاله وخصاله القبيحة ، وبين التحليل والنقد ، بل وتحروا له الأعذار عذرا خلف عذر .

    المتنبي أيها السادة ، كذاب ، دعي ، رخيص إلى حد انه لا يساوي ثمنا لو عرض بسوق النخاسة ، وكل ما قاله ، وما نقلناه له كان مدفوع الثمن والأجر ، فليس اكذب من مادح الملوك والحكام ، إلا المنافح والمكافح عن ذلك المادح .

    أما شعره ، فانه صفته ، لنا أن نختار كيف نستفيد منه لغة وتراثا ، ولكن دون العودة لقائله بالتجميل وإخفاء العيوب ، فكم من حكيم أفاد الناس ، وكان عن إفادة نفسه ابعد واعجز ، فجان جاك روسو كتب " إميل " واعتمد كأفضل الكتب بالتربية ، مع أن المؤلف قذف بذريته في الملاجئ فرارا من المسؤولية ، فاخذ العالم من الكتاب ما شاء ، دون أن يدافع عن أثم الكاتب .

    وإذا ما تفاخر العالم بما يملك من علم وكشف وتقدم ، عدنا لابن النفيس وابن البيطار وابن ماجد وابن سينا ، عدنا نستنهضهم من قبورهم ليسدوا الفراغ والنقص والعجز الذي نعاني منه . وكأننا ولدنا من أرحام لا تعرف عن الحاضر إلا الارتباط بالماضي .

    ولو انتقلنا إلى مسائل الدين والفتاوى ، لوجدنا الأقدمين من العلماء والأئمة ما زالوا يصدرون فتاوى العصر الذي نعيش به ، فنحن لا نملك عالما واحدا يجرؤ أن يتخلص من هيبة الماضي وقدسيته ، ليؤسس قاعدة مطوره للرؤى الإسلامية المعاصرة ، وعلينا – شئنا أم أبينا – أن نعود للماضي لنستخلص منه ما نود للحاضر ، بطريقة النقل والقياس التي اعتمدها علماء العصر السابق .

    وإذا ما حاولنا الافتخار بما نملك اليوم ، اتجهنا نحو فاروق الباز وعلي نايفه ومحمد زويل ، على أنهم من الجيل العربي المعاصر الذي يستحق أن نفتخر به ، متناسين أو مغفلين الأرضية التي عمل بها هؤلاء ، والإمكانات التي رصدت لهم ومن اجلهم ومن اجل أعمالهم في الدول المتقدمة ، ورادين كل خبرتهم وقدرتهم إلى المنشأ والعرق العربي ، مع يقيننا المطلق بان هؤلاء وغيرهم إنما هم صناعة العقل العلمي الغربي ، وصناعة الإمكانات والقدرات التي هيئت لهم من اجل الكشوف التي وصلوا إليها بفضل تلك الإمكانات وتلك القدرات .

    وننكر عن سبق إصرار وترصد ، بجهل مغرق في الجهل ، بان العرق العربي وبلد المنشأ لا تأثير له مطلقا بما وصلوا إليه ، وان الفضل كل الفضل ، للدول التي احتضنتهم ومنحتهم كل ما يحتاجون من اجل الوصول إلى ما وصلوا إليه كعلماء تلقوا تعليمهم ، وأحرزوا انتاجاتهم بعيدا عن الأمة العربية والإسلامية .

    فالباز وزويل ليسوا مفخرة لمصر أو العرب ، وعلي نايفه ليس مفخرة لفلسطين أو المسلمين ، لأنهم أنجزوا ما أنجزوا بما قدم لهم من الغرب من إمكانات وقدرات ، وليس لأنهم ولدوا بمصر أو فلسطين أو في بلاد عربية وإسلامية أخرى .

    والحق الذي لا يعلوه حق ، إننا كأمة عربية ، علينا أن نخجل من الافتخار بهم لأنهم من أصولنا ، لا لأنهم لا يستحقون أن يفخر بهم مجتمع ، بل لأنهم لو ظلوا في الوطن الذي ولدوا فيه ، لتحولوا من علماء ينتظرهم المستقبل وتنتظرهم الكشوف ، إلى كناسين أو حمالين على أرصفة الوطن الذي يحاول الآن سرقة ما أضفاه الغرب على شخصياتهم من علم وابتكار ، ليفاخر بهم ، دون أن يكون صاحب فضل أو قيمة في شخصياتهم التي تكونت واستطاعت أن تؤثر بالحاضر الذي يحياه الإنسان على الأرض .

    والملاحظة التي لا يمكن المرور عنها أو إغفالها ، أن زويل في مقابلة تلفزيونية سئل إن كان الوطن العربي قادرا على إخراج نوع من الاكتشاف أو الفتح العلمي ، فأجاب بحزم الواثق ، إجابة غريبة مذهلة ، فيها من الضعف والرثاء أكثر مما في بيت عزاء ، وهي تقود إما لجهل الرجل بالحياة ، وتفوقه بمجاله فقط ، وإما لخجله العميق من الإجابة بالنفي ، أجاب : نعم ، والدليل على ذلك أن أم كلثوم قد استطاعت ومن خلال الأدوات الصغيرة المتاحة أن تنهض بما نهضت به .

    ونحن نقول : إذا كان زويل حقا قد عقد هذه المقارنة ، فهو بدون شك إنسان يعرف أن يتعامل مع القوانين التي تعلمها في تخصصه ، لكنه من الثقافة والحصافة والذكاء خال الوفاض ، وهو بالضرورة جاهل بمقاييس المنطق والقياس والاستدلال إلى درجة لا يمكن إخراجه منها إلى دائرة المعرفة البسيطة ، وان قالها تعصبا ، فانه لم يستفد من علمه شيئا إلا ما حقق وفق دائرة مغلقة ، لا تستطيع أن تجعله يعترف بالحقائق السلبية ، وفي الحالتين ، كان عليه أن يخجل من ذاته ، ويخجل من مثاله ، لتبقى صورته في الأذهان قائمة على العلم الممنطق بقواعد الاستدلال الصحيح .

    ولا فرق أبدا بين استدعاء الماضي الراقد في المقابر وتحت والثرى منذ آلاف الأعوام ، وبين الافتخار بما صنع بعض العلماء المعاصرين بفضل الغرب وإمكاناته .

    فهناك نحاول انتشال عجزنا من أهل المقابر ، وهنا نحاول أن نغطي عجزنا بما صنعت الأمم الأخرى لعلماء لو بقوا ببلادهم ، لاحتضنتهم السجون ، أو ماتوا دون أن يعرف العالم أسماءهم أو يحس بوجودهم.

    وحتى في المعارك الحربية التي سجلنا فيها هزيمة اثر هزيمة ، ما زلنا نستدعي معركة بدر ، وحنين ، ومؤتة ، وما زلنا نبحث عن عبد الرحمن الداخل ، ويوسف بن تاشفين ، وإذا ما ذكرنا معركة احد ، فإننا نستبسل في تعليل الهزيمة التي حاقت بالجيش الإسلامي .

    فترانا نردها إلى الأخطاء التي ارتكبت بمخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بطريقة تحولها من هزيمة حصلت وطبعت على ارض الواقع ، إلى نوع من تبرير التعلم .

    ليس عيبا أن نتعلم من هزيمتنا ، وليس عيبا على المسلمين أنهم هزموا بمعركة احد ، ولكن العيب أن نرفض واقع الهزيمة الفعلي بمسوغات وأسباب تحاول أن تنأى عن الاعتراف بالهزيمة ، كهزيمة عسكرية أمام جيش المشركين . وكان ما حصل كان نوعا من مبرر لمسوغات لا تعترف بالهزيمة .

    والمفارقة الهائلة في العقل الإسلامي ، أننا حين نتحدث عن خالد بن الوليد رضي الله عنه ، فإننا نتحدث عنه بصيغة المنتصر بكل المعارك التي خاضها في حياته ، ونجعل معركة احد أحدى مفاخره بالجاهلية وقبل الإسلام .

    وهذا حق لا مراء فيه ، ولكن حين نتحول لمعركة احد من الجانب الآخر ، فإننا نحاول التقليل من كلمة الهزيمة ، بمبررات لا تخضع للعقل أو المنطق ، فنزول الصحابة عن جبل احد ، هو خطأ عسكري ، أدى إلى إدراك خالد بن الوليد ، بان الحاجز الذي كان يفصل بينه وبين النصر قد انهار ، فالتف بجيشه وأغار على الجيش الإسلامي ليلحق به الهزيمة ، هذا ما حدث تماما ، فإذا أراد علماء الأمة أن يناقشوا الأسباب ، فليناقشوها بطريقة مجردة تماما من إيجاد مسوغات ، قد تحول الهزيمة العسكرية التي حاقت بالمسلمين ، إلى حدث لم يصل إلى مرحلة الهزيمة .

    وفي عصرنا الحاضر ، استللنا المسوغات القديمة ، وأضفيناها على هزيمة العرب والمسلمين يوم سقوط فلسطين ، وفي عام 1967 ، حين استطاع الصهاينة ، أن يهزموا مصر وسوريا والأردن ولبنان ، وان يسيطروا على مساحات واسعة من الوطن العربي ، لم نعترف بما حصل على انه النكبة ، بل حولناه إلى نكسة ، وخرجت المظاهرات بشوارع مصر والوطن العربي تطالب ببقاء جمال عبد الناصر على سدة الحكم .

    كانت شخصية عبد الناصر المهزوم ، والذي أضاع بلده ، أكثر أهمية في العقل العربي من الأرض التي احتلها الصهاينة ، كانت العقلية ، هي عقلية الهزيمة التي ترفض الاعتراف بما حصل ، وتطلب بكل ما فيها من انهيار بقاء قادة الهزيمة على سدة الحكم ، وكأن الأوطان لا يستقيم أمرها إلا بمن أسسوا للهزيمة بكل ما يملكون من طاقات وقدرات .

    وحتى حرب 1973 ، التي يتغنى بها الشعب المصري ، ويحاول أن يجسدها كحرب تم النصر فيها على الصهاينة ، والتي اعتمدها الفن المصري على أنها إنجاز عظيم ، هي حرب يجب مراجعتها مرة أخرى ، لان المنتصر في معركة ما ، لا يمكنه أن يستجيب لدعوة الخيانة والسقوط .

    المنتصر هو من يستطيع أن يفرض شروطه على المهزوم ، لكن الذي حصل ، أن الصهاينة ، هم من فرضوا شروطهم ورؤيتهم على مصر كلها ، حاكما ومحكوم ، وسخروا كل قنوات الجيش والدولة المصرية لخدمة قضيتهم وأهدافهم ، واستطاع المهزوم ، أن يحول رئيس أكبر دولة عربية وأكثرها وزنا في الصراع ، إلى خادم يتلقى الأوامر من أسياده ، واستطاع الخادم أن يحول شعبه إلى مجموعه من الخدم لتحقيق الأهداف الصهيونية في وطنه والوطن الإسلامي .

    حرب 1973 ، يجب أن يعاد دراستها من جديد ، برؤية جديدة ، قادرة على الفصل بين قدرة المنتصر على تحقيق شروطه ، وبين قدرة المهزوم على تحقيق أهدافه .

    وعلى العقل العربي أن يتعلم كيف يقرأ الأحداث ، وكيف يمزج بين ما حصل وبين النتائج ، دون الانجرار وراء وهم البحث عن نصر كاذب مزور .

    ونحن وفاء للجنود ، لا نضعهم ضمن حسابات الهزيمة في تلك المرحلة ، فهم قاتلوا بكل ما يملكون من إيمان وقدرة ، دون أن يعلموا بان القادة ستجعل من دمائهم جسرا لعبور الخيانة والهزيمة .

    ولكننا نضع المثقفين الذين اندفعوا وراء الوهم من النصر القادم من اتفاقات كامب ديفيد ، والتي منعت القوات المصرية من الدخول إلى سيناء " المحررة " إلا وفق إرادة العدو وإذنه ، وحتى قطع السلاح التي ستحملها القوات المصرية ، يجب أن تكون ضمن قاعدة صياغة العدو . نضعهم في قائمة رموز الهزيمة التي شاركت بتحويل فكر قطاع كبير من الناس إلى الاعتقاد بمبادىء العصر الحاضر ، التي قادت إلى اتفاق اوسلو وودادي عربه ، وما سيليها من اتفاقات .
    ولم تكن الحركات الإسلامية التي نشأت في الوطن الإسلامي بمنأى عن توطيد تحجيم العقل العربي ببوتقة صغيرة ، تكاد تختفي منها الحقائق الثابتة ، لأنها لم تملك رؤية متطورة وعصرية نابعة من الخلق والإبداع في تيار الحاضر ، بعزيمة ثورية نهضوية ، قادرة على تجديد الفكر الإسلامي ، بل انطلقت تأخذ بالعموميات ، وتفتح أبواب النقل والتلقين ، واندفعت بكل قوتها نحو الفكر الإسلامي القديم ، تنقله مرة بصورة اللصق ، ومرة بصورة الإحياء ، دون أن تجرؤ على استحداث أسلوب جديد ، يمكنها من تطوير رؤى الماضي تطويرا يتناسب مع النقلة المرجوة للشعوب الإسلامية .

    بل تخندقت وتحصنت برفع هالة القدسية على كل ما سبق من علوم وفقهاء ومجتهدين ، وأرست قواعد التوازي بين الماضي والحاضر ، إلى درجة أوصلت المسلم إلى الانغماس بما سبق ، دون يملك أدنى جرأة في محاولة تغيير معالم الماضي ليتناسب مع معطيات الحاضر .

    نحن لا ننكر على من سبقونا حقهم بالتقدير والاحترام ، لكننا ننكر عليهم وعلى أنفسنا أن نتمحور فوق نقطة واحدة قالها من سبق وظلت إلى هذا اليوم تتحكم في معتقداتنا وطرائق تفكيرنا ووجدان ضمائرنا إلى حد إننا لا نستطيع أن نتخطاهم لتأسيس رؤيا جديدة تتناسب مع معطيات العصر بكل ما فيه من تدفق علمي وفكري وديني وأدبي ، وحتى أننا وصلنا إلى مرحلة من الرعب والهلع تمنعنا من التدقيق بما كتبوا في عصرهم ، تدقيقا نقديا يمكن من خلاله القول أن الإمام السيوطي قد تجاوز حدود المعقول والمنطق حين وصل إلى مرحلة الترف الفكري ليكتب بعض الكتب التي لا قيمة ولا اصل لها في منطق العقل الديني والدنيوي ، ولا نملك الجرأة للفصل بين ما أرساه الائمة الأربعة – رضوان الله عليهم – من طرق التفكير والاجتهاد والاستدلال التي كانت في وقتهم ، قادرة على الاحاطة بمفاتيح العصر الذي يحيون به ، ولكنها بالضرورة ، وبحتمية التطور الذي قاد إلى الاختلاف في التركيبة الاجتماعية والذهنية والفكرية ، لا تتساوق مع الحاضر بكل تفاصيلها ، وإنما تحتاج إلى مراجعة وتدقيق وتمحيص ، لنتمكن من بناء قاعدة فكرية معاصرة لتجديد منهجي يتوافق مع كل مراحل التطور والتفاعل التي يحياها المسلم في الوقت الحاضر .

    وما علينا أن ندركه اليوم ، يقينا ، بان عصر الفرد قد ولى وانصرم ، إلى حد الاجتثاث من الجذور ، فليس من المعقول في العصر الحاضر ، أن نبني مفاهيمنا الدينية والدنيوية على أفكار فرد ، مهما بلغ من العلم والمعرفة والحكمة ، لان معطيات الحاضر ، وتفرع العلوم ، وانقسام الفكر الموزع على عدد لا يحصى من الاكتشافات والفلسفات ، لا يمكن لفرد الاحاطة بتفاصليها ، أو حتى بكم من تفاصيل يؤهله لقول فصل في قضية ما .

    لذلك يجب الاتجاه بكل ما نملك من وعي وإدراك ، إلى تأسيس مجالس جماعية من مجموع العلماء القادرين على رفد الفكر بجميع تفاصيل القضية المتشعبة في وديان العلوم المختلفة ، فمثلا ، لا يمكننا أن نركن لرأي الشيخ يوسف القرضاوي ، أو ابن باز ، في قضية تخص علم الأجنة أو علم التجميل ، ما لم يأخذ هؤلاء من رجال تلك العلوم كل التفاصيل المحيطة بتلك العلوم ليستطيعوا أن يتباحثوا مع مجموع كبير من علماء الدين ، ومن ثم تصدر فتوى حول ذلك الموضوع ، على أن تكون هذه الفتوى قابلة للنقض ، إذا ما أفرزت العلوم جديدا حول تلك الفتوى يوما ما .

    ويجب التفريق تماما بين القانون العلمي الذي ثبت وأصبح واقعا لا يمكن الشك فيه ، كقانون الجاذبية ، وبين النظرية التي ما زالت تحت التجربة والبحث ، وهذا ضروري حتى يمكن تلافي الوقوع بالخلط بين الحماس للدين ، وبين الروية التي تسعى للتثبت من طبيعة القادم .

    وهناك من الشواهد التي قادت إلى انقلاب بين الفكرة التي قدمها علماء الدين ، الذين ارتكزوا على النمط التقليدي للاستنباط المرهون بنمط من سبقهم من علماء .

    مثال ذلك ، قضية التفرد الإلهي بمعرفة ما بالأرحام ، وهي قضية تم نقلها عمن سبقونا بتسليم كامل ، ونقلت إلى المسلم على أنها حتمية دينية لا يمكن خلخلتها أو تغييرها ، وظلت الأمور كذلك إلى جاء الكشف العلمي وبدأ يصرح بأنه على طريق تحديد نوع الجنين داخل الرحم ، فثارت ثائرة العلماء وانفردوا يذودون عن المفاهيم القديمة بكل ما امتلكوا من علم ومعرفة مستقاة ممن سبقونا ، وحين أصبح تحديد الجنين أمر ثابت علميا ، عاد رجال الدين يضربون أخماس بأسداس ، وتاه المسلم العادي بين مورث تم الدفاع عنه باستماتة وبين واقع اثبت نفسه بالعلم الذي يطبق في عيادة الطبيب العادي .

    عندها فقط ، عاد علماء الأمة يبحثون عن تفسير جديد يتماشى مع مفهوم العصر ، لكنهم ظلوا عاجزين عن سد الفجوة التي أربكت العامة ، وما زالت القضايا المطروحة علميا تشي بتوسيع الهوة بين علماء يرفضون التحرر من أفكار الماضي التي استندت إلى معطيات زمن فقير ، وبين عصر يستطيع أن يذهلك بقدرته على إحداث انقلابات ضخمة في المفاهيم . وهذا دليل واضح على ضرورة نزع صورة الفرد الموسوعة القادر على إصدار فتاوى تخص العصر ، وتثبيت معنى وضرورة المجموعة التي تتساعد بكل ما تملك من طاقات من اجل محاولة إرساء فتوى قادرة على أن تكون أكثر طموحا وأكثر حكمة من رأي الفرد أو الآحاد المعدودين .

    نحن بحاجة حتمية غير قابلة للنقاش أو النظر ، بتأسيس رؤيا جديدة للفكر الديني ، تقوم بالعودة إلى الموروث ، لتمحصه وتدققه ، لتبني شافعي بشكل مجموعة قادرة على فهم الحاضر ومقتضياته ، لتستطيع أن توازن بين طبائع العصور ، واختلافات الوقائع .

    وهذا ينسحب على مجموع العلوم والآداب ، وان كان الأدب لوحده قد استطاع أن يتخطى بعض المراحل التي ورثناها عن السلف ، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلنا نفاخر بما نملك اليوم ، أكثر من مفاخرتنا بمن سبق .

    علما بان العصر الحاضر قد دفع ببعض النخب التي يمكننا أن نعتبرها بثقة وفخر ، الأساس الذي يمكننا أن نبني عليه حاضر يمكننا من الخروج من اسر الماضي ، كزكي نجيب محمود ومحمد عبده والأفغاني والعقاد ومالك بن نبي وعبد الرحمن بدوي وغيرهم .

    لكننا للأسف ، لم نلتفت إلى هؤلاء ، إمعانا منا بالالتصاق بالماضي .

    ونحن للأسف أيضا ، ما زلنا في مجال العلوم ، لا نملك حتى الخطوة الأولى لنقول بأننا نفخر بحاضر دون استدعاء الماضي كي يسد عجزنا .

    ببساطة ، نحن اليوم امة تستطيع النقل ، ونعجز عن الخلق والإبداع ، والطامة ، إننا لا نعترف بذلك ، إيمانا منا بان ابن البيطار وابن سينا وابن ماجد ما زالوا قادرين على تأسيس علماء العالم الذين تخطوا كل السابقين بخطوات يفصل بينها مسافة تتساوى والمسافة الواقعة بين الموت والحياة .

    والسؤال ، كم ألف سنة سنحتاج لكي نستطيع أن نصنع طائرة أو دبابة ، وكم ألف سنة سنتحاج حتى نصنع جهازا قادرا على اكتشاف مرض المعدة أو مرض الحالب ، وكم ألف سنتحاج إلى نصل إلى مرحلة نعلم فيها أن الدين ليس خطبا ووعظا ؟ وإنما هو عمل متواصل بين جميع العلوم التي تخدم الإنسان ؟ متى سننتقل من بؤر الماضي ، وخمول الحاضر ، كي نستطيع أن نزدهي بذاتنا المعاصرة ، كما ازدهى من سبقنا بما امتلكوا من قدرات قادتهم لقيادة العالم .

    مأمون احمد مصطفى
    فلسطين – مخيم طول كرم
    النرويج – 03- 02 - 2008

  2. #2
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    العمر : 54
    المشاركات : 3,609
    المواضيع : 421
    الردود : 3609
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    موضوع رائع انادي من خلاله عبر صباحياتي لو تابعت
    واظن ان مكانه ليس هنا
    اشد على يدك فتفكيرك الصائب بتقاطع مع تفكيري كفى فخرا بماض لم يعد من جديد
    كل الدعاء بالتوفيق
    فرسان الثقافة

  3. #3
    الصورة الرمزية نادية بوغرارة شاعرة
    تاريخ التسجيل : Nov 2006
    المشاركات : 20,306
    المواضيع : 329
    الردود : 20306
    المعدل اليومي : 3.19

    افتراضي

    عودتنا منك الموضوعات المفيدة، و التحليل القيّم.

    لحين وجود ما نفخر به من إنجازات حاضرنا ،لا

    بد ّأن نذكر و نظل نذكر ماضينا ، ليس لنخفي به فشلنا ،

    و لكن على الأقل لتخليد ذكرى الصنّاع الغابرين ،

    أو ليس ذلك من حقهم علينا ؟

    و هذا حتى يتواصل العقد يوما فيكون آخرنا كأولنا .

    إحترامي و تقديري لما كتبت .
    http://www.rabitat-alwaha.net/moltaqa/showthread.php?t=57594

  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    المبدع مأمون..
    الموضوع شائك ، ومتداخل من الاساس لكونه يبحث العقل ، وبلاخص العقل العربي ، الذي يتعود منذ البدء الانفتاح على الاخر ، وانما ظل يستقي وجوديته من السابق ، لذا لم ينخرط في العملية الابداعية الا من خلال الاخر ، واذا ما توقف الاخر اصبح هو في عداد اللاشيء ، انه آفة العقل الجمعي ،الذي يعطل العقل الفردي، والذي بالوقت نفسه يسوق أفراد الامة كا لقطيع نحو الابائية وتقليد السلف ، دون السماح لهم بإعمال الفكر والعقل والتدبر. والعقل الجمعي يقف حائلاً امام تطور الفرد ،ومن ثم تطور المجتمع والامة ،لأنه يوقف الفكر عند حدود العقول السابقة ،وكأن عقولنا معطلة عن التفكير والابداع ،كونها تعطلت وأصبحت منقادة بعقل جمعي ممثلاً من خلال المؤسسة القائمة على ما قام به الاولون من ابداعات ، ان النظر الى الاولين وهم ينتجون هذا الابداع يجعلنا الان في موقف صعب جدا بل ان البعض منا يتمنى لو انهم لم يفعلوا ، على الاقل كنا الان نحاول ان نفعل شيئا لنخرج برؤسنا التي دفناها منذ امد طويل في الرمال لنرى العالم على صوره الحية والمباشرة والحقيقية ، بعيدا عن زيف الماضي وتاويلاته التقليدية الكلاسيكية.

    ايها العزيز للحديث معك رونق العقل وبهاء النفس الابية
    محبتي
    جوتيار

  5. #5
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    المشاركات : 320
    المواضيع : 85
    الردود : 320
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    الاخت الكريمة ريمة

    انا اتابع الكثير من اعمالك ، ولكن لي موقف من النقد والتعليق على اعمال الاخرين ، ومن اجل ذلك وتحريكا لشيء بداخلي اعترف انك من اثرته ، ستكون لي مقالة توضيحية حول ذلك ، وساكون بموقف الشرف والغبطة ان يكون منتداك اول من بحصل عليه .

    مع كل التقدير والمودة

  6. #6
    الصورة الرمزية سمو الكعبي شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    الدولة : في صومعتي
    المشاركات : 1,967
    المواضيع : 70
    الردود : 1967
    المعدل اليومي : 0.31

    افتراضي

    الأخ مأمون :
    مقالة تستحق النقاش والوقوف عليها,رغم التحفظ على بعض ممافيها ,فالمتنبي لا نختلف على شاعريته أو حتى أن نفخر بها ,ولكن يجب أن ننصف إذ تكلمنا عن الأخلاق أيضا , ثم إنه ميت وقد أفضى لما قدّم , فلابد أن لا نبخس اي مبدع حقه فالإبداع لا دخل له في الإخلاقيات فالله يتكفل بهم -نسأل الله لنا ولهم الرحمة -.
    أخي اسمح لي أن أنقل هذه الحروف العالية الفكر للمنتدى الفكر السياسي فهو أقرب لها لأنها فهي اقرب ما تكون كونها خاطرة تتناول النفس البشرية وما ينتابها .
    لا عدمناك
    .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    فلنغتم أوقاتنا بسماع القران :http://quran.muslim-web.com/

  7. #7
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    المشاركات : 320
    المواضيع : 85
    الردود : 320
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    الاخت نادية

    انا افخر بالماضيين واعتز بهم ، ولا اشير الى قدرتهم باي اشارة سلبية ، ولكني اطالب الجيل الحاضر بان يحذوا حذوهم ، وان يكون صاحب راي وشان في العصر الحاضر.

    مع المودة

  8. #8
    الصورة الرمزية عبدالصمد حسن زيبار مستشار المدير العام
    مفكر وأديب

    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    المشاركات : 1,887
    المواضيع : 99
    الردود : 1887
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي

    موضوع مهم و طرح مفصلي
    مرور أولي و لي عودة
    بإذن الله


    لأهمية الموضوع فهو
    للتثبيت
    تظل جماعات من الأفئدة ترقب صباح الانعتاق,لترسم بسمة الحياة على وجوه استهلكها لون الشحوب و شكلها رسم القطوب ,يعانقها الشوق و يواسيها الأمل.

  9. #9
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    خير لنا أن نجلس في المستقبل لنرى اسلامنا ومسلمينا من هناك ...

    خير وفير ... والله

    \

    جزيت الجنة
    الإنسان : موقف

المواضيع المتشابهه

  1. رؤى ـ بين الياء والألف ـ
    بواسطة حسين الأقرع في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 20-01-2021, 01:12 AM
  2. قليلات العقل وكاملو العقل..
    بواسطة نبيل عودة في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-08-2012, 06:44 PM
  3. صناعة الأعداء في العقل الإسلامي
    بواسطة سامح عسكر في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 30
    آخر مشاركة: 02-02-2012, 07:50 PM
  4. تجديد العقل العربي ... مسؤولية السلطة أم المثقفين ؟
    بواسطة إسلام شمس الدين في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 10-09-2005, 05:04 PM
  5. محنة العقل العربي
    بواسطة عمرو اسماعيل في المنتدى الحِوَارُ المَعْرِفِي
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 09-01-2005, 09:21 PM