العيد
قصة واقعية ..
في وقت الفجر .. تحيرت الشمس كيف ترسل أشعتها الذهبية في الآفاق وهي تحاول أن تخترق جدار الليل .. كيف تشرق .. أتشرق بوقار الصائمين أم بمرح الأطفال الذين يقفزون هنا وهناك من غير هدف ينشدونه سوى جمع المزيد من المال ؟ ..
تحيرت وكأنها تخبرنا عن حالة التمزق والفرقة والاختلاف التي نعيشها ، وكأنها تبصرنا بحقيقة وهي أن قمر العيد يُرى ويُراقب بالعين لا بالأهواء والمصالح ..
على كل حال فان ( محمود ) كان قد افطر واستقبل اليوم عيداً مجهولاً !!.. فليس لأحد أن يخمن ما كان يخبأ هذا اليوم للناس من أحداث ومواقف .. والحقيقة أن أيام العراق باتت تحمل المعنى نفسه من الخوف والمجهول والترقب وخاصة بعد الاحتلال .. فالموازين مقلوبة والحقائق مشوهة وكل يوم يظهر قناع جديد ويختفي آخر ، وبعد لحظات يسقط القناع عن صاحبه الذي طالما نادى ونادى بالحرية والديمقراطية والإصلاح .. و ..!! .. ليظهر آخر محله وهكذا ..
ولكن خبايا هذا اليوم ( العيد ) أصبحت تنكشف قليلاً فقليلاً وما كان في عالم الغيب يصبح شهادة ، فالقوات الأمريكية بدأت بإطلاق الرصاص على المنطقة التي يسكنها محمود .. المنطقة التي طالما أزعجتهم وأنهت عليهم آمالهم وأفزعتهم من أحلامهم الوردية التي حملوها من بلادهم لكي تنقلب ـ حسب ما يظنون ـ إلى واقع جميل وحياة أجمل .. ولكن أين يبحثون عن الحياة ، في عرين الأسد ؟ .. لقد أخطأوا ودخلوا في العرين فالتفت حول أعناقهم كل معاني الموت والفناء .. لقد اخطأوا !!..
هذه المنطقة التي تظهر عليها مظاهر البساطة في بيوتها وأزقتها ، فاغلبها تحمل الطراز القديم للبناء ، وكأنها كتلة من أحجار تحن بعضها لبعض فتدنوا فيما بينها لتعطي ذلك تماسكها المعهود وان كان يخيل للناظر إليها أنها جدر تريد أن تنقض على صاحبها .. ولكنها أبنية لا تحمل شكل الماضي وفنونه في البناء فحسب ولكنها تحمل أيضاً أصالته وقيمه وأخلاقه فهي لا تنقض على أصحابها لأنها تعرف الوفاء وتحفظه ، فليست هي التي تنسى أصحابها ، وتنسى تلك النسمات التي كانت تعطر جوها ، وتلك السهرات التي كانت تجمل ليلها ، ليست هي التي تنسى ..
ولكنها تنقض على الغريب الذي يحاول تمزيق شملها ، ولا تحمل وداً لأعدائها ولا في من يحاول أن يسمم نسماتها العطرة أو يحاول منع أضواء النجوم التي تلألأ في سمائها من الوصول إليها ..
إنها تنقلب ناراً وجحيماً على كل من يعتدي عليها ليحافظ على أهلها وعلى أصالتها ..
بدأ إطلاق الرصاص ، وبشكل عشوائي ومكثف ، لأنهم لا يجيدون سوى ذلك .. في تلك اللحظات لم يستطع احد أن يتخطى عتبة منزله حتى من اجل ضرورات الحياة وإلا فإن رصاصة ترديه قتيلاً أو قل شهيداً .. وظل محمود يترقب الأمر مع المترقبين ويفكر في ماهية هذه الحالة التي يعيشونها .. يفكر ويتساءل .. ففي الذهن مئات الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة سريعة وصحيحة ايضاً .. فالوضع هنا لا يحتمل ولا يطاق فليس لأحد أن يحتفل بالعيد داخل منزله وبين أهله ..
وبعد فترة ثقيلة وعصيبة من الزمن .. ثقيلة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى .. ثقيلة في سكناتها وحركاتها .. ثقيلة في صمتها وصراخها .. ثقيلة في خواطرها وتساؤلاتها .. بعد ذلك ساد الجو هدوء نسبي لا يخلو من القلق والخوف مما جعل محمود يقرر أخيراً مغادرة المنزل ، ثم سرعان ما جذبته قدماه إلى الشارع العام يبارك من يرى من الناس بالعيد .. يتكلم .. يضحك .. يفرح .. يحزن .. ومعذور محمود إذا بكى !!..
وربما راق له التجول وخاصة بعدما مر به وبالناس أحداثاً تكتم الأنفاس وتضيق الصدور ، فراح يتمشى على طول الشارع لعله يجد له مخرجاً من حالة الكآبة هذه ويجد من الأنس ما يريح به قلبه وعقله ويرفع عن صدره عبء الظروف القاسية جداً .. فراح يتمشى ويتمشى حتى استقرت به قدماه أمام مجموعة من المحلات التجارية ..
أاستقرت به قدماه أم استقر به ما كان مكتوباً أن يشاهده في هذا اليوم ؟..
بماذا كان يفكر .. والى أين سرحت به أخيلته .. وبماذا كان يشعر في تلك اللحظة وهو يرى الناس وهم يخرجون من بيوتهم وبحذر وينتقلون من هنا إلى هناك علهم يجدون لهم متنفسا ً في هذا اليوم ( العيد ) ؟..
فقد اعتاد الناس فيما مضى أن يخرجوا إلى الأزقة والشوارع فراداً وجماعات يتبادلون تحية العيد المباركة ( تقبل الله ، أيامكم سعيدة ، كل عام وانتم بخير ) ويتصافحون فيما بينهم لتتساقط الذنوب من بين الأيادي المتشوقة والمتعطشة إلى عفو الرحمن ، أما اليوم فعيد ولا عيد ..
أمام تلك المحلات .. وبعد لحظات من وقوف محمود إذا بالمدرعات الأمريكية تصل هناك .. وبشكل مفاجيء .. ومن غير سبب .. أخذت تطلق الرصاص على الواقفين بشكل عشوائي وبلا رحمة .. وبدأ الناس يطلقون عنان أقدامهم للريح يفرون من لغة الرصاص التي لا تفرق بين احد .. فكل يبحث عن زاوية أو مخبأ له ليختبأ من الرصاص .. ولكن ..
استقرت رصاصة مشئومة في جسد احد الواقفين هناك فأطاحه أرضاً جثة هامدة لا حراك فيها ، ومن ثم ابتعدت هذه القوات عن مسرح الجريمة .. فهرع الناس إلى الجثة .. أنفاس .. دقات قلب .. لا شيء .. ومحمود واقف أمام هذا المشهد وهو يقلب اللقطات التي مرت به سائر اليوم محاولاً دمج بعضها مع بعض عله ـ عله فقط ـ يتمكن من رسم صورة واضحة صافية على هذه الخلفية السوداء بفرشاة الواقع لحالة المعاناة هذه ..
رفعوا الجثة إلى بيتها ..
دقوا الباب ..
خرجت الأم ..
لتستلم هدية العيد ..
ارجو من الاساتذة تقييم هذه القصة القصيرة بناءً وموضوعاً والاشارة الى اماكن ضعفها وقوتها ان وجدت ..
مع شكري وامتناني وبالغ تحياتي ..