قلة عقل ...!!!اندفعت مع الجموع الهادرة نحو باب الخروج من محطة القطارات
الرئيسية بالأسكندرية ..
أمواج متلاطمة رجال ونساء من جميع الأعمار ..
ثلاثون عاما وأنا أخطو على نفس الطريق ..
وكما تدور عيناي على الأشياء ..والأشكال .. والوجوه ..
اصطدم بصرى بوجهها فلم أستطع أن أسترده ..بياضها صافى
بشرتها نضرة .. عيناها تتحركان من داخل رموش طويلة ثنفث
السحر الخلاب ..
أبطأت فى سيرى قليلا ..ثم تتبعتها كالثمل النشوان ..
اليوم الحساب الختامي للشركة وتقفيل الميزانية ..
لايهم ..
دعونى اليوم أسبح بالقوة المجهولة ..
قلت لنفسى وأنا أتبعها خطوة بخطوة ..
"انها القدر الذى لاينفع معه حذر .."
عبثا حاولت أن أستمد القوة من ذاتى لأتخلص من ذلك المجهول
الذى يدفعنى دفعا الى تتبعها ..
ولكن ذلت قدماى وانتهى الأمر ..
اخترقنا ميدان المحطة بأشجاره الياسمينية المترعة بألوان الربيع
وانبعث من الفضاء المحيط شذا طيب شعشع فى رأسى روح المغامرة ..
دلفت الى شارع النبى دانيال وانا خلفها وبعد دقيقة قابلتها امرأة
وتصافحتافى ود وتبادلتا بضع كلمات ..أرهفت سمعى وأنا أتقدم بحذر قريبا منها فأدركت أن اسمها "كوثر " رمقت عنقها الطويل
المطوق بعقد لؤلؤى وأعلى صدرها المنبسط فى رحابة فتلقيت فى
قلبى نبضات موحية بإلهامات غامضة ..
استكملت المسير وأنا أتبعها حتى مالت الى محل "البن البرازيلى " ..لا بأس من تناول فنجانا من النسكافيه باللبن وأتملى من السحر المنشود ...
وقفت فى ركن أتابعها وهى ترشف من شفتين ساجيتين ..ساحرتين ..ولكنها لاتنظر نحوى ..! هل تشعر بوجودى ..؟
نظراتها لاتوحى بذلك ..
دهمتنى افاقة مباغتة فانقبض قلبى ..ماهذا الذى يحدث ..؟
انه أمر خطير .. هو بالتأكيد ليس لهوا أو عبثا ..انه اندفاع أهوج
الى ميدان جديد لم أطرقه من قبل ولم يدرج فى جدول أعمالى
لكنى فى الخمسين خريفا .. ماذا يجدى !؟
والصلعة اللآمعة بشعاع الشمس تكشف سر العمر الدفين ..
لكن ثمة ارادة حديدية مصممة على خوض المعركة حتى النهاية
انقضت حوالى نصف ساعة ثم انطلقت خارجة من المحل وفى
أثناء خروجها اعترضها شاب أنيق الملبس ..ابتسمت له ملوحة
بأصابعها الرشيقة وهى تقول فى صوت عذب النبرات :
تلفن عليً ..أمامى عدة مشاوير
تركها الشاب وانطلقت كالغزال فى اتجهاه محطة الرمل .. وبخطى
سريعة تبعتها حتى صارت المسافة بينى وبينها متر واحد ..
والغريب أنه كلما دنت المسافة كلما كان شعورى بالإرتياح أعمق
لكن دقات قلبى تتسارع..وحبيبات العرق بدأت تظهر على جبينى
لابأس ..فهاأنافى سباق حاد مع الجنون ..
وتساءلت هل تنجذب الأرواح كما تنجذب الفراشات نحو ضوء الشموع .. ؟ ماالذى يشدنى اليها شدا ..؟ أهو الاعجاب ..الحب
الروح .. الجسد ..قوى خفية .. !! هناك أناس يختصون بميزة سرية ويتسللون الى القلوب بقوة لاتقهر ..أعتقد انها منهم ..
ولا تفسير لذلك ..
ثم انحرفت نحو دار المعارف فوقفت على الطوار وسط الحرارة المتصاعدة والأصوات المتضاربة والزحام الشديد ..
آه .. أشعر بتعب يدب فى ركبتي ..مشيت كثيرا ..بدأت أشعر بجفاف
ريقى ..يبدو أن السكر عال ..زغللة فى العينين ..وارهاق يبدأ من
الكعبين وينداح فى الأطراف والرقبة ..
هاهى خارجة من الدار بوجه مشرق بالفتنة والبهاء ..
غمرتنى رغبة فى الجلوس على الأرض بعد أن استفحل احساسى
بالتعب .. ولما رأيتها تتهادى تبعتهامن فورى ..
يبدو أنها شعرت بوجودى اذ رمقتنى نظرة قوية لا أعرف معناها
احساسى بالظمأ بدأ يتواكب مع جفاف ريقى ..التفت حولى بحثا عن مياه ولكن بصرى ارتد سريعا نحو جسدها الممشوق حتى لاتضيع منى فى الزحام ..
ارتفع نهجان صدرى .. وكثرت حبيبات العرق فوق جبينى ..
دخلنا الى محطة الرمل ..انها تقصد بائع الفشار ...لا ..بائع
الجيلاتى ..هل أطلب أنا أيضا كوبا من الجيلاتى ..؟
انتحت جانبا وعيناها تجرى على سطور الصحف اليومية وتقضم
الجيلاتى فى استمتاع وتلذذ ..آثرت فى الحال أن أستمتع بالجيلاتى
لأقف بجوارها .. وفى فم جاف اذدردت الجيلاتى والعرق ينهمر من
جبهتى ..
ِ
ابتسمت ابتسامة خبيثة وأنا أتذكر زميلى وهو يحذرنى من مغبة
غياب اليوم ..!
أصوات الباعة تتداخل ..والسنيورة بجانبى تمنحنى دفئا مجهولا ..
لكن مابال السماء رمادية اللون ..والأشكال تختلط فى مجال رؤيتى
وأضواء قوس قزح تغمرنى بألوانها الزاهية ..
المثانة امتلأت بالماء ...ماهو الحل ..؟ماهذا البلل ؟
التفت حولى ..لاأرى الأشياء ولا الأشخاص ولا السنيورة
حتى قدماي لاتستطيعان حملى ..
خال اليً أننى انطرحت أرضا ..واندلق باق الجيلاتى على ملابسى
فى رأسى خلايا غير منظورة لاتزال تعمل ..بها لمحت ولدى الوحيد قادما من بعيد ...فهتفت به :
أين ياولد الماء ...؟ أين الملح ..؟
ثم
ثم وليت وجهى نحوها فلم أجد إلا العتمة .