بسم الله الرحمن الرحيم
محاكمة استثنائية
المكان :قاعة المحكمة بإحدى الدول الإسلامية..
الزمان :لم يأتي بعد: ربما غدا أو بعد غد وربما بعد قرون لاتعد..
المتهم :القاضي السابق..
يدخل المتهم من الباب الذي تجنبه دائما، حيث اعتاد أن يدخل منه المتحاكمون إليه، والذي شهد خروج آلاف المتهمين بأحكام قالوا عنها أنها غاية في القسوة والظلم والجور..
لم تستطع تلك القيود الملتفة حول رجليه ويديه، ولا حتى تلك النظرات الشامتة التي تطلعت إليه من كل من في القاعة، أن تحد شيئا من غطرستة وشموخه، ولا أن تكسر بروده الأسطوري المعروف به دائما..
أقتيد القاضي إلى مكان خاص بالقاعة وجلس ينتظر ..
ومع طول الانتظار بدأ التوتر يتسلل إليه شيئا فشيئا..
_العدالة_..
بتلك الكلمة الواحدة ارتفع الصوت..
كان صوتا عميقا..حطم ماتبقى من غطرسة في نفس القاضي المتهم..
وانفتح الباب الخاص بدخول القضاة بالتزامن مع خفوت الإضاءة المفاجىء داخل القاعة و..
ووجد الجميع أنفسهم يقفون إجلالا لما رأوا..
حتى القاضي المسكين انكمش على جسمه ولم يعد يقوى على الوقوف، فلم يجد غير جملة واحدة يعبر فيها عن عظمة مارأى:
ـ رحمتك إلهي..
تلك الجملة التي لم تتجاوز شفتيه، بل بقيت حبيسة أفكاره، وهو يتطلع إلى الشخص الداخل، وقد فغر فاهه في دهشة..
كان الداخل امرأة..
نعم.. امرأة متكاملة الأوصاف تتزيى بلباس أسود،واسع، ينتهي عند ذراعيها بما يبدو أشبه بجناحين من نفس اللون، ولايظهر من ملامح وجهها غير عينيها..
عيناها اللتين أضاءتا المكان كله ببريقهما الفريد، والذي تجاوز بريق ذالك الشعار الذهبي الذي يبدو واضحا على صدرها..
إنه رسم للميزان..
شعار اعتدنا رأيته، لكن بتغيير واحد، هو أن كفتي الميزان كانتا في نفس المستوى تماما..
كاد القاضي أن يفقد وعيه حينما أشارت إليه المرأة قائلة في صرامة:
ـ لاتطلب الرحمة ممن لم تعدل في أرضه يوما..
ثم أزاحت الكرسي بعيدا قائلة:
ـ لن أجلس على هذا الكرسي قبل أن آخذ بحق من راحوا ضحية للأحكامك الجائرة.. إقترب..
أنت الآن في محكمة إستثنائية، هناك آلاف الشكاوي ضدك ، وأصحابها غائبون، لأن معضمهم قد لقي مولاه أو لايزال يقضي فترة عقوبته..
إنتظرت كثيرا لعلك تعود إلى جادة الصواب، لكن لما رأيت أن الأمر لم يعد يحتمل الصبر أكثر، فقد عدت لأمارس مهامي التي خولتك إياها فلم تكن أبدا في المستوى المطلوب..وفي محكمتي لايحق لك أن تدافع عن نفسك ولا توكيل ماأسميتموه بالمحامون..كل ماعليك فعله هو أن تستمع إلى رقم القضية وأنا من خلال عدلي وقدراتي التي أكرمني بها الله سبحانه سأعرف صدق حكمك من عدمه..ولقد صدق عمر حينما قال <إتقي فراصة المؤمن فإنه ينظر بنور الله>
رفعت عينيها المشعتين لتركزهما على أحد الأشخاص قائلة في ابتسام:
ـ لفد صدقت يارجل أنا العدالة..لكن ليس العدالة العمياء كما تقولون ..أنا العدالة البصيرة..
دار الرجل ناحية صديقه وهو يقول في ذهول:
ـ ياإلهي هذا ماكنت أفكر فيه فعلا.. كيف استطاعت أن تعرف مايدور بخلدي دون حتى أن أنطقه ؟..
أجابه الرجل في رهبة:
ـ من يدري لعلها قارئة أفكار..
صدم الرجل حينما أتاه الجواب منها هي :
ـ لست بقارئة أفكار ولا فنجان.. أنا العدالة يارجل..وهذا وحده يكفي..فلا شيء يخفى على العدالة..
فتحت الكتاب الذي بين يدها لتقول في عمق:
ـ القضية الأولى: قضية رقم 2006..
ومع نطق الرقم قفزت إلى ذاكرة القاضي ملابسات القضية
ولم يعد يتمالك نفسه وهو يهوي ساجدا يطلب الرحمة..
وكان من الواضح أن المحاكمة انتهت قبل أن تبدأ..
محاكمة أعلنت العودة..
عودة العدالة..
العدالة البصيرة..
عبد الرحمان