وعاد الجرح بجرحين
قصة قصيرة
علي حسين العبيدي.
من نور الزنابق ينبلج الصباح....ومن خيوط الامل تزهو الحياة وتنفرج من ساهرات الليالي لقاءات الماضي وسط زحامات تنذر بالرحيل في ساعة الفجر حيث الهدوء في كل زاوية من زوايا الفضاء الرحيب....هناك نلتمس عطر النسيم يداعب محيّانا لينقلنا من عالم الحقيقة الى عالم الخيال وينفث من خيوطهِ عطر الحبيب مثقلاً بربيع الشباب مفعماً بنكهة الذكريات الرقيقه عند المنحنى لشواطيء دجلة وهي تغازل شمس الأصيل على امواجها الهادئه على الرغم مما فيها من ألم ولكنَهاألمُ الجراح المشرفةِ على الشفاء ياللوفاء لقد مرت على تلك الذكريات اربعون سنة أخذت منا ما اخذت من زهو الشباب ورقة التأملات فأذا انا احدق بنظرات خافتة تشوبها مرارة الزمن القاسي ......هنا قد رأيت مالم تصدقه عيني لمحات الماضي تعود من جديد ...يا إلهي ما هذا الذي أرى قلت في نفسي و الأسى يمزق كياني .... هل إن الزمن توقف منذ اربعة عقود أم إني في حلم جميل وما اكثرها الأحلام لمن حبسته السنون وأدمت فؤاده الايام مرُّها ورحلت عنه حلاوتها ....... تقربتْ مني وهي تتمعن صورتي وكأني أُحس في نظراتها أمراً مريباً ....لم تكن متردده أو خائفه في أن تسأَلني وعلى قسمات وجهها فرحة من انت ؟ وما الذي حدا بك أن تحدق بي هكذا وكأنَك فقدت عزيزاً الى نفسك أَشبَهني....ثم توقفت هنيهة رفعت خصلة من شعرها كانت تحاكي خيوط الشمس تسقط على عينيها .....تورَّد خدّها ثم شعرتْ بنوع من الخجل ينتابها حينئذٍ علمتُ في نفسي أنها ندمتْ على هذه المواجة فبدا ذلك جلياً واضحاً عليها .... همهمت في نفسي بكلمة بها استطيع أن أفكّ هذا اللّغز ولكن دون جدوى حيث قد أخذتني فكرةٌ بعيدة الى التريّث من أن اكشف لها عن غور نفسي ولكنها قالت....يا عم بالله عليك قل لي من أنت ؟...حينئذٍ ادركت بأنها ملحة على معرفة جواب سؤالها ....قلتُ وكلي تردد ((شوكت)) وكتمتُ في نفسي معالم هذا الرجل الذي كانتْ لي معه مواقف صعبة أخذت مني الكثير الكثير ثم تذكرتُ أن ذلك لا يعنيها فصمتُّ برهة و اخذتُ اتأمل عينيها و أقول في نفسي نعم .... إن فيها ملامح منه.... فاستعجلتْ وبادرتني .... قلتَ لي اسمي ((شوكت)) ما اعذب هذا الاسم الى نفسي انه اسم والدي الذي لبىّ نداء ربه و تركنا اطفالاً في حضن اليتم والألم ثم تنفستْ الصعداء وفي نفسها حرقة الماضي .... ثم فاجأتْني ولكنك لم تقل لي من أنت؟..... أنا هذا الذي ترين شيخاً حنى الدهر ظهره و أفنت الأيام عمره كان ضحية تقاليد اجتماعيه بائسه حيثُ استسلمنا لمفاهيم القبيله فعركتنا عرك الرحى بثفالها ومزقتْ اواصر حبنا و ضاع الذي بنيناه في اربع سنين بلحظه الوداع من غير رجعة بـ{ نهوة ابن العمّ } فكانتْ لهُ وزفت اليه موثقة اليدين لتقضي معه شهر العزاء لا شهر العسل ...فآظلمّ الليلُ بعد أن غاب بدرهُ وانكسفت الشمس بعد زهوها وتهدم الوكر و هاجرت الطيور بعد أن ودعت الكلية طلابها وما عادت تجمعنا كما كانت وهجر الخليل خليله ثم التفتُّ اليها فرأيت عينيها قد اغرورقتا بالدمع وهي تشير برأسها نحوي أنت ذلك الذي كانت أُمّي ..... ثم بدأت تركز نحوي وتستعيد بها الذكرى الى الماضي حتى احسستُ بأنها غابت عني الى جهة لا اعلم محيطها بل وربّما لا ادرك غورها وهنا فاجأتها بصوت ملؤه المرارةُ و الحزن ....نعم هو ذا الذي امامك قد صرفتنا الأيام الى عالم النسيان و أسدلتْ علينا ثوب الهجر والفراق فذَهب كل واحد منا آلى جهة لا يعلم مصيرها فقد سلبنا الزمن حق الوداد وحق الأختيار ولكن عاد من جديد ليفتح الجرح الذي مضى على شفائه دهر كي يذكرنا بجيل تمنينا أن يكون منا ولكنها الأيام اقسمتْ على عكس ذلك نعم يا بنيتي هذا العالم نجري على ظهره من غير أختيار ولا رغبة و كأننا على ظهر سفينة وسط امواج عارمة تذهب بنا الى ما تريد لا ما نريد نحن ثم انتبهتُ الى صوت المنادي و هو يشير عليّ بركوب الحافلة وهنا جمّعت نفسي وركبت ولم تزل عيني عليها محدقة الى ان غشيها الدمع وذهبت صورتها من عيني لتبقى مخزونة بفكري ويدي لم تزل تودعها وهكذا عشتُ حياةً بجرحين في ماضيها و حاضرها.....