كانت هناك قرية يأتيها الناس من كل فج عميق آمّين أطلالها العتيقة ، وبساتينها البهيجة ، وحدائقها الغنّاء ، كل شيء له نغمة مُطربة ، وكل شيء له نصيب من الجمال يسر الناظرين .
وأجمل ما فيها مرشدوها الذين لا يكادون يجهلون لسانا يتكلم به الوفود ، فإذا ما أتى زائر أخذوه إلى مراده واستوفى منهم الفهم التام ، حتى كأنه في عقر داره ، أو أقرب إليهم من جواره .
وكما يتمتع الزائر بمناظرها الخلابة كذلك يتمتع بالحرية في إبداء رأيه أو طرح انشغاله في تجمّع يحضره الخاصة والعامة ، ولم يسقط حَرْفٌ مما أراد الزائر أن يصل إلى أصحاب القرار ولن يسقط مادام هناك مرشدون أمناء في الترجمة .
لقد كان الرئيس العام يروقه هذا التفاني من المرشدين والإخلاص في العمل والاقتدار على توفير الحرية التي آمن بها كشرط من شروط الحياة السعيدة ، لذلك لا تجده إلا داعما لها ومنوّها بها ومؤكدا عليها في كل مجلس وناد .
بفضل الله أوّلا ثم بفضل جهود الرئيس والمرشدين أصبحت الكلمة تخرج بسلاسة لتقوّم الاعوجاج ، وتنير كل ظلام داج ..
اغتاظ أعداء الحرية من هذه الصحوة التي باتت تهدد مصالحهم ، وتفضح سياستهم ، ولا بدّ من حَلّ عاجل ! .
فكّروا وقدّروا ثم فكّروا وقدّروا ثم نظروا وعبسوا ثم قرّروا الاتصال بالتقني الذي يُشرف على تعيين المرشدين وتوزيعهم وإظهار أسمائهم مكتوبة على اللوحة الإلكترونية الكبيرة ، وإعطائهم البدلات الخاصة بهم كل صباح جديد .
لم يخطرْ ببالهم الرئيس لعلمهم مسبقا أنه رجل لا يُباع ولا يُشترى ، يؤمن بأن الإنسان مكرّم من الله تعالى ، وأنّ هذا التكريم لا يتحقق إلا بأمور على رأسها الحرية.
اجتمعَ التقني بهؤلاء ، وكانت وجوههم ترهقها قترة من شدة الغيظ ، فانفجر أحدهم قائلا : لقد بلغَ السيلُ الزُبى ، وطال صمتنا ، وكثر منكم اللغط والشطط ..
لم يفهم التقني شيئا مما قيل !! .
سألهم : ما دهاكم ؟
فقال أحدهم : لقد جاوز بعض المرشدين حدّهم حتى صار الناس ينقمون منّا كل سلوك .
التقني : وما دخْلُ المرشدين ؟
أعداء الحرية : إنهم هم الذين حفروا للكلمة المجرى الذي يأخذها إلى حيث أرادت ، ألم تر إليهم وهم يفسحون المجال لكل مداخلة ونقد ، ويترجمون كل صغيرة وكبيرة ، ولا يبالون إذا كان الأمر يمس مصالحنا ويتعارض وأهدافنا الشريفة ..
أطرقَ التقني رأسه وأرخى عينيه إلى الأرض ، وسكتَ هنيهة ، ثم قال : وما هو المطلوب منّي ؟ .
أعداء الحرية : يجب إقصاء المرشدين المعاندين في أقرب الآجال ، وسوف ندلك على آخرين يعرفون الحدود ، ويخضعون للقيود .
في الصباح الباكر توجّه المرشدون تلقاء اللوحة الالكترونية كعادتهم لينظر كل واحد منهم أين يباشر عمله ، فتفاجأ بعضهم بعدم ظهور أسمائهم على اللوحة ، ولمعتْ أسماء جديدة لا يكاد أصحابها يفقهون لسانا .
انصرف في غليان الحال هؤلاء المُقصَون إلى مشاغل أخرى ، وبعد أيام اتصل أحدهم بالرئيس العام لإطلاعه بالأمر ، فقال الرئيس : ربما هو خلل تقني ، لا تقلق سوف ننظر فيه .
أحسّ المرشدُ المُقصى بأن هناك مؤامرة تُحاك ، فعاودَ الاتصال بالرئيس ليقول له : سيدي الرئيس ، هناك مؤامرة لا تعلمها .
فقال الرئيس : أنت واهم ، ليس هناك شيء ، وكل الأمور تحت أعيننا ، إنْ هو إلا خلل تقني ، وسوف نتصل بالتقني ليصلحه .
سبْحلَ المرشد المُقصى ، وراح يتأمل في خلق الله ، وينظر في حوادث الزمان ، ومفاجآت الدهر ، ويستنبط الدروس والعبر .
راح يُنشد قول الشاعر :
ومنْ يجعل الضرغام للصيْدِ بازه
تصيّده الضرغامُ فيما تصيّدَ
هكذا ينحرف مجرى الكلمة الحرّة عندما تهدد أصحاب المصالح الضيقة ..
بدأ المرشدون الجدد في العمل ، ولم يُصرّحوا بالطريقة التي لقنّهم إياها أعداء الحرية ، لكنهم كانوا من حين إلى آخر يُطبّقون شيئا منها كمقدمة لها ، ولم تمض أيام حتى صاروا يُفرّقون كل مجلس يُطرح فيه انشغال أو يُذكرُ فيه اسم واحد من أعداء الحرية تحت شعار " لا للتجريح " فكلما أراد الناس هنالك أن يُعبّروا عن استيائهم جاءهم هؤلاء المرشدون ليكمموا أفواههم ويُضيّقوا عليهم ، وهو الأمر الذي اهتز له ذوو الفطنة ، فصاروا يشتكون إلى الرئيس العام ، وكتبوا له تقريرا نصه : السيد الرئيس العام ، يؤسفنا أن نُنْهي إلى علمكم أننا أصبحنا لا نطيق هذا التضييق الذي يمارسه بعض المرشدين .
ما أتعس أصحاب المصالح الضيقة !!
يرفعون شعارات " لا للتجريح " والأوضاع جريحة ، أليس الصُراخ على قدر الألم؟
حتى الألم لا يريدون سماعه ، فمن كان به ضرر فليَكْتُم الألم ..!
إنّ الأوضاع الجريحة لا تخرج منها إلا الكلمات الجارحة لأعداء الحرية ، والمريض لا تنتظر منه الضحك .
ردّ عليهم الرئيس العام ببرودة وقال لهم : هذه أراجيف يبثها من يسعون إلى تشويه سمعة القرية ، فالقرية مِلك للجميع ، ولا أحد يستطيع أن يؤثر علينا .
لا شك أنّ الطامة الكبرى هي أن يُخدعَ المسؤول ، ويظنّ بالأخيار شرا ، وبالأشرار خيرا ..
مازال لم يعرف الرئيس إلى حدّ الساعة أنّ هذه من تدابير أعداء الحرية الذين فرضوا على المرشدين قمْع الكلمة ومصادرة الحريات ..
ومابرح الرئيس يثق بمرشدين تُسيّرهم أياد خفية ..
وإذا لم يُقدّرْ له أن يَعرفَ هذه المؤامرة سوف يُقصى على حين غفلة ويُقال له : خلل تقني !