أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: الجبارون

  1. #1
    الصورة الرمزية فتحي العابد أديب
    تاريخ التسجيل : Sep 2009
    العمر : 59
    المشاركات : 267
    المواضيع : 81
    الردود : 267
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي الجبارون

    بسم الله الرحمان الرحيم

    الجبّارون..

    بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير مع أصحابه اعترضت طريقهم امرأة تحبس الطريق، فقيل لها: تنحَّي عن الطريق، فامتنعت قائلة: الطريق عريض، خذوا يمينا أو شمالا.. فقال عليه الصلاة والسلام: "دعوها فإنّها جبّارة".

    إذا كانت إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ففي حادثة المرأة الجبّارة يبيّن النبي الكريم ومهذّب الأمة، أنّه أحيانا يكون التهذيب ليس بإماطة الجبارين من طريقنا، بل بتوسعة صدرونا للتسامح وتجاوزهم.

    فترى التجبر في عصرنا الحالي يأخذ صورا متعدّدة.. ومن صورها: كنت أحد أيام عزوبيتي ألعب الكرة على شاطئ بحر روما مع صديقي المغربي، ورميت الكرة فتدحرجت بجانب شابين إيطاليين ممتدين على منشفة يتشمسان، وتناثرت عليهم حبات الرمال المبللة وعلقت بهما.. هاجا وثارا وبدأ يسباننا ويلعنان كل من له علاقة بأصلنا وفصلنا رغم أننا اعتذرنا لهما، ولكنه لم ينفع ذلك شيء بل قام أحدهما وبصق علي، عندها ثارت ثائرتي ذكرتني بعصبيّة أبي عندما تنفلت أعصابه مع بعض مواشيه الجامحة.. فبدلا من محاولة إرجاعها، يخوض في مسابقة جري ورائها للإمساك بها، بمعنى أنه سيبدأ معركة العناد معها، وهو أمر يبدو وكأنّه تنفيس مفيد، لكنّه على العكس يفاقم العصبية، ويفسد الأخلاق، وينهك البدن.. وقلت قولته المشهورة "خلّيني أربيه ولد الكلب"، وضربته ضربة كسرت إحدى أضلعه.. وياليتني تحكمت في أعصابي، إذ سحبت مني بطاقة إقامتي مدة بعد أن دفعت له مبلغا من المال ليس بالقليل طلبه كتعويض على الضرر الذي لحق به، رغم أن مسؤول الشرطة تفهم موقفي.

    فبدل أن أتسامح وأتجاوز رعونة الآخر، فأكظم نفسي عن دخول صراع الجبابرة المنشّط لنزعة جبروتي، أردت غصبا أن أربّي الطرف الآخر الجاهل، المزعج، المعاند.. وبهذا تتفاقم الإحتقانات، وتزيد الأخطار.. ونبتعد عن مغزى الحديث الشريف الذي بدأنا به الكلام.

    ومن ظواهر التجبر والإساءة للغير كثيرة ـ ونراها كل يوم من أيام حياتنا ـ : مثلا هنا في روما بعض الأشخاص الذين يحسبون على الإسلام تراهم يوقفون سياراتهم أو شاحناتهم في الأماكن المخصصة للعجّز، أو فوق الرصيف، أحيانا يوم الجمعة عند إقامة الصلاة حيثما وقفَتْ، وكأنّ سيارته ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثما بركت بركة! دون اعتبار لمن سيتعطّل خلفهم، طالما قضوا رغباتهم..

    والصورة الأخرى من التجبر والأذى موجودة في هذه القصة التي رواها الكاتب أحمد أمين، وهي الأشد والأكثر جبروتا، وعواقبها مدمرة جدا، جدا سواء على الفرد أو المجتمع: يحكى أنه كان في مصر فلاحا أجيرا أصاب ثروة طائلة فاشترى قاربا فخما، جميلا.. ثم ارتدى ثيابا أنيقة غالية الثمن وجلس في القارب وهو ينساب على سطح النيل، عندئذ رآه صاحب الأرض التي يعمل فيها وكان رجلا متغطرسا قاسي القلب، فأمر عماله بإحضاره، فهجموا على القارب، وقبضوا على الفلاح، وأتوا به أمام صاحب الأرض..

    فقال صاحب الأرض للفلاح: منذ متى كان الفلاح يركب قاربا جديدا؟!

    الفلاح: هذه النعمة من رحمتك وعدلك وإحسانك يا سيدى.. وهذا شيء يسركم يا سيدي، لأنه من فضلك ومن خيرك.

    ـ كيف يجوز للفلاحين أن يتشبهوا بأسيادهم ويركبوا مثل هذه القوارب؟

    ـ معاذ الله أن أتشبه بأسيادى، فمن أكون؟ أنا عبد من عبيدكم وكل ما أكسبه هو في النهاية ملك لكم.

    ـ إذا كنت لا تريد أن تتشبه بنا فلماذا اشتريت قارب وركبته فى النيل كأنك من الأسياد؟ أتريد أن يراك الفلاحون فيعتقدون أنك صاحب شأن ومقام؟

    ـ أستغفر الله ياسيدى.. إن كنتم ترون فيما فعلته عيبا فأنا أشهد الله ورسوله ألا أعود أبدا إلى ركوب هذا القارب.. تبت على يديك ياسيدى.. أرجوك أقبل توبتي..

    ـ توبتك مقبولة.. لكني سأفعل بك ما يجعلك لا تكرر خطأك بعد ذلك أبدا.

    ثم أمر صاحب الأرض الخدم فقيدوا الفلاح وجرّوه على الأرض حتى لطخوا ثيابه الجديدة بالوحل ومزقوها، ثم أخذوا يضربونه حتى سال الدم من ركبتيه ورجليه وظهره.. بينما صاحب الأرض يضحك ويردد: هكذا لن تنسى أبدا مقامك الوضيع يا فلاح..

    هذه الواقعة تعكس نمطا شائعا من العلاقة بين المستبد وضحاياه في مجتمعنا العربي.. فهذا الفلاح كان يدرك بلا شك أن من حقه أن يركب المركب الجديد الفاخر لأنه اشتراه من حر ماله، ومن حقه أيضا أن يرتدي ما شاء من ثياب..

    كان الفلاح يدرك أنه لم يرتكب أي خطأ، لكنه رأى من الحكمة أن يعتذر لصاحب الأرض، ويعلن توبته عن ذنب لم يقترفه.. لقد بالغ الفلاح في إذلال نفسه حتى يفلت من الظلم، ولكنه بعدما أهدر كرامته تماما تلقى نصيبه من الضرب والجر والمهانة..

    وهكذا نرى أن الإذعان لم يمنع عنه الظلم ولو أنه وقف بشجاعة أمام صاحب الأرض ليدافع عن حقه في أن يعامل كإنسان، لكان على الأقل احتفظ بكرامته، وما سيصيبه بعد ذلك بشجاعة ليس أسوأ مما أصابه بإذعانه.

    هذا المعنى أتذكره وأنا أتابع ما يحدث في بعض الدول العربية هذه الأيام، إذ ترى أن النعمة التي يؤتاها أحدهم أحيانا يردها للحاكم وليس لله.. لقد نشأت أجيال من العرب على اعتقاد راسخ بأن الإذعان للظلم هو قمة الحكمة.. وأن الإنحناء والتذلل لصاحب السلطة خير وسيلة لإتقاء شروره..

    اعتقد كثير من العرب طويلا أن الإعتراض على نظام الإستبداد ليس إلا حماقة لن تغير الأوضاع إلى الأحسن أبدا.. كما أنها كفيلة بإضاعة مستقبل كل من يقاوم الظلم واعتقاله وتعذيبه وربما قتله.

    اعتقد العرب أن التعايش مع الحاكم الظالم سينجيهم من شره، واطمأنوا إلى أن آلة القمع الجبارة التي يملكها النظام لا تتحرك أبدا إلا لتسحق من يعترض عليها، أما من ينحني ويذعن وينصرف إلى أكل خبزه.. ودخول جحره، فلن يصيبه النظام بضرر أبدا، بل سيحميه ويرعاه.

    لكنهم ينتبهون الآن، ربما لأول مرة خلال عقود، إلى حقيقة أن الإذعان والسكوت عن الحق والتذلل للظالمين، كل ذلك لا يمنع الظلم أبدا بل كثيرا ما يضاعفه.

    إن واقعة الشاب التونسي محمد علي الذي اعتدت عليه الشرطة في بلده بالضرب حتى أشرف على الموت، والذي لم يكن له أي نشاط سياسي، أو عضوا في أي جبهة، أو حركة تستهدف تغيير النظام، بل لعله لم يشترك في مظاهرة قط في حياته، سوى أنه كان يمتطي سيارة فخمة بعض الشيء جهد سنين من العمل في الخارج، لكن ذلك لم يعجب الشرطي الذي مرت عليه عشرون سنة عمل ولا يستطيع ولو شراء دراجة حسب قوله.

    وأمرّ من تلك، حادثة الشاب خالد سعيد في مصر، الذي كان يحلم مثل ملايين المصريين بأن يهرب بأي طريقة من وطنه الظالم إلى أي بلد يعيش فيه بحرية وكرامة، حيث توجه في ذلك المساء إلى مقهى للإنترنات ليقضي بعض الوقت كما يفعل ملايين الناس. لم يرتكب جريمة ولم يخالف القانون لكن تهشمت جمجمته تحت الضرب من طرف أعوان الدولة.

    والمغزى الواضح لمثل هاته الوقائع أن الإذعان لم يعد كافيا لحماية العرب من قمع حكامهم، بل يدل ببساطة على أن أي شرطي أو حتى أي مخبر يستطيع أن يضرب ويتجبر، بل يقتل من يشاء من المواطنين ولسوف تتحرك أجهزة الإستبداد فورا لتبرئة القاتل بوسائل كثيرة وفعالة..

    إن أولائك المواطنين المسالمين أمثال محمد علي وخالد سعيد رحمة الله عليه، لم يدر بأذهانهم قط أن يقاوموا الإستبداد لكنهم اعتقدوا.. تماما مثل الفلاح في الحكاية، أن باستطاعتهم أن يتعايشوا مع الظلم وينحنوا أمام الظالم، ثم ينشئوا عالمهم الصغير الآمن لهم ولأولادهم. لكنهم جميعا فقدوا حياتهم بسبب النظام الذي خافوا من مواجهته، أي أن ما حدث لهم جراء الإذعان والخضوع هو بالضبط ما كانوا يخشون وقوعه إذا احتجوا وثاروا.. وهذا يعكس الحقيقة المحزنة، أن كثيرا من الدول العربية صارت تفعل بأبنائها ما لم يستطع فعله الأعداء.

    لقد أدرك هؤلاء أخيرا الدرس الذي لم يفهمه الفلاح في الحكاية، هو أن عواقب الشجاعة ليست أبدا أسوأ من عواقب الخوف..

  2. #2
    الصورة الرمزية عبدالصمد حسن زيبار مستشار المدير العام
    مفكر وأديب

    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    المشاركات : 1,887
    المواضيع : 99
    الردود : 1887
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي

    سلام الله
    قص الله علينا تاريخ عدد من كبار الجبابرة كأمثال فرعون و هامان ... و هو حكي في تاريخ طويل من الصراع بين المستبدين و الضعفاء, منذ بدأ الخليقة وهو مستمر إلى أن يرث الله الأرض و من عليها.
    يقول تعالى في سورة سبأ :
    {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ.قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ.وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}
    تظل جماعات من الأفئدة ترقب صباح الانعتاق,لترسم بسمة الحياة على وجوه استهلكها لون الشحوب و شكلها رسم القطوب ,يعانقها الشوق و يواسيها الأمل.

  3. #3
    الصورة الرمزية محمود فرحان حمادي شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2009
    الدولة : العراق
    العمر : 62
    المشاركات : 7,102
    المواضيع : 105
    الردود : 7102
    المعدل اليومي : 1.29

    افتراضي

    نعم أخي الفاضل ألا ترى معي بأن المتنبي قتله بيت من الشعر
    الخيل والليل والبيداء
    ولو تذكر ما قله هو بعينه لنجا إذ قال
    الرأي قبل شجاعة الشجعان
    هو أول وهي المحل الثاني
    التجبر مرض العصر الذي أدمنه الكثير من العجزة
    نسأل الله السلامة
    وبورك فيك أخي الفاضل
    تحياتي

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.70

    افتراضي

    اعتقد العرب أن التعايش مع الحاكم الظالم سينجيهم من شره، واطمأنوا إلى أن آلة القمع الجبارة التي يملكها النظام لا تتحرك أبدا إلا لتسحق من يعترض عليها، أما من ينحني ويذعن وينصرف إلى أكل خبزه.. ودخول جحره، فلن يصيبه النظام بضرر أبدا، بل سيحميه ويرعاه.

    لكنهم ينتبهون الآن، ربما لأول مرة خلال عقود، إلى حقيقة أن الإذعان والسكوت عن الحق والتذلل للظالمين، كل ذلك لا يمنع الظلم أبدا بل كثيرا ما يضاعفه.
    أكتفي باقتباس زبدة القول من أصل النص
    وأصمت لتدبر حكمة وروعة ما قرأت هنا

    دمت مبدعا
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  5. #5
    الصورة الرمزية فتحي العابد أديب
    تاريخ التسجيل : Sep 2009
    العمر : 59
    المشاركات : 267
    المواضيع : 81
    الردود : 267
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    شكرا لكم جميعا
    ألا ترون أن
    من معالم الإستبداد أن تنتقل الدولة من كونها أداة للحكم بين الناس إلى حكم الشخص على الناس. وبذلك يُحوّل النظام القانوني الذي كان يناط به الفصل بين الأفراد بالعدل وتداول إدارة الحكم، إلى إرغام المؤسسات القائمة على التنفيذ المحض لصالح حكمه المتسيد المستبد. هكذا لا يبقى وجود لمجتمع مدني يتجاوز إرادة الدولة وهيمنتها. كما أنه ليس مسموحا بوجود مشروع مناهض للدولة الظالمة التي تجمدت عند حدودها المشخصنة كل الأعمال المؤسساتية، ومن شأن دولة هذا دأبها أن لا تقبل أي حركة ذاتية لأي من التكوينات الأهلية أو تضفي عليها أي مشروعية إذا كانت بعيدة عن فلكها المركزي، وهو ما يعني أن أي تحريك شعبي خارج إطارها سيدخله خانة العصيان والتآمر على أمنها.