أين أمي ؟!
عبدالغني خلف الله
كانت بحق ليلة عيد صاخبة بالحدائق العامة وكان الزوج والزوجة المتعبين من عناء نهار يوم العيد الحافل بالزيارات والمجاملات قد افترشا عشب الحديقة الواسعة وأرخيا العنان لطفلتهما مودة الممتلئة حيوية ونشاطآ والتي ومنذ أن انتقل والداها للعيش بالعاصمة بعد نقل والدها إليها من الأقاليم لا تفهم لماذا كان عليها مغادرة ذلك المنزل الواسع بحديقته الغناء في تلك المدينة الساحرة وصديقاتها واصدقائها الصغار بالروضة وماما سلمي لتعيش داخل شقة بالطابق الثالث في منطقة معزولة تمامآ عن بقية الأحياء ..لذلك استعادت مرحها وعنفوانها ولعبت مع طفلة في نفس سنها المفعمة باللياقة العالية والرغبة في اكتشاف العالم ..كان والداها يراقبانها علي البعد وبعد أن اطمانوا علي الناس والمكان انهمكا في مناقشة تفاصيل المشكلة التي اقتضت نقله للعاصمة وذلك الخلاف الرهيب بينه وبين المدير العام وقد بات التعامل بينهما كمدير ونائب مدير أشبه بسابع المستحيلات فضحت به الرئاسة ونقلته ليعمل بالخرطوم ..وبينما الطفلتان تلهوان قريبآ من بوابة الحديقتة رأت الطفلة مودة سيدة تغادر الحديقة شديدة الشبه بوالدتها وترتدي نفس ملابسها ومعها زوجها فاعتقدت بأنها هي ..ركضت خلفهما خارج الحديقة وهي تصيح ( ماما ..ماما ) بيد أن صوتها الضعيف ضاع وسط ضجيج العربات والمارة وابتعدت الطفلة كثيرآ عن الحديقة وهي تحاول بخطواتها الصغيرة اللحاق بوالدتها ..وأخيرآ توقفت المرأة والرجل بعد أن نبهما بعض المارة بضرورة السير ببطء لتلحق بهما طفلتهما ..توقفت المرأة وأخذت الطفلة في أحضانها وكأنها والدتها بحق وحقيقة ..انكمشت مودة بعد أن اكتشفت بأن هذه السيدة ليست أمها الحقيقية وشرعت في البكاء وهي تردد ( عاوزه ماما ..عاوزه بابا ) ..( حاضر يا حبيبتي ..حالآ نوديك لماما ) ..ولكن تلك السدة وبخاطر فجائي قسري أوقفت عربة تاكسي وحشرت زوجها بالمقعد الأمامي هي والطفلة بالمقعد الخلفي ..كفت الطفلة عن البكاء وضاعت نهنهاتها في ثنايا شريط الغناء المنبعث من مسجل العربة ..ترجل الجميع ودخلت تلك السيدة ومعها الطفلة بسرعة داخل المنزل طالبة من زوجها دفع أجرة التاكسي ..وداخل غرفة النوم أجلست الطفلة وقدمت لها شيئآ من الحلوي والفاكهة وما أن تسأل الطفلة ماما وين حتي ترد عليها ( حالآ نمشي لماما ) حتي استسلمت للنعاس ونامت . لم ترق الفكرة للزوج وصار يردد ( ده حرام يا أمينه ..إنت بالطريقه دي حتودينا السجن ..ده اختطاف ..دي جريمه ) ..( لا جريمه ولا حاجه .. نحن متزوجين لينا تسعه سنين هل تتوقع أطفال بعد المده دي كلها .. ولم لا يا أمينة ؟ لا تقنطي من رحمة الله .. اعقل يا طارق ..دي طفله ربنا أرسلها لنا ..ووالدتها الحقيقية ستنجب غيرها وربنا يعوضها ..سأربيها أحسن تربية وأنسيها أهلها ..حاول أن تساعدني يا طارق ) ..وكان السؤال الكبير يجثم فوق صدرها ..كيف ستقنع الجيران والمعارف بوجودها بينهم ..؟ ) سنأخذ الطفلة إلي وادمدني ونقضي مده قصيره بأحد الفنادق وسنعود برواية مفادها أن شقيقتي وزوجها توفيا في حادث حركة مروع وأننا أحضرنا طفلتهما لتعيش معنا ..وبالفعل نفذا خطتهما الغريبة في وقت اختلطت الأمور فيه هنالك بالجانب الآخر بصورة مأساويه ..فبعد اكتشافهما حقيقة أن طفلتهما قد تاهت ولم يعثر لها علي أثر ..أبلغا الشرطة التي فعلت كل ما بوسعها من نشر لصورتها بالصحف والتلفزيون وارسالها لجميع الأقسام ..استسلمت الأسرة المكلومة للأمر الواقع ورزقا بطفل ثان وثالث ورابع ولكن صورة مودة كانت تملأ خاطر الأم المكلومة بكل تفاصيلها المؤسفة ..إنها تحفظ تضاريس طفلتها شبرآ شبرآ وتحفظ كل العلامات المميزة التي تقودها إليها في حالة العثور عليها ولم تفقد الأمل برغم مضي السنوات ..كبرت مودة والجيران ما بين مصدق ومكذب لروايتهما ودخلت الثانوي ثم الجامعة ..وتشاء الصدفة أن يحل خال الفتاة كساكن جديد مع أسرته قريبآ منهم في منزل بالإيجار ..وتعرف علي الجيران وتعمقت صلته بهم ..وكان كلما يصادف مودة وهي في طريقها للجامعة أو وهي عائدة من هنالك حتي يشعر بأن شيئآ ما يجذبه نحوها وقد أعجبته برزانتها وأدبها الجم وفكر في خطبتها لشقيقه الأصغر المغترب بإحدي دول الخليج ..سأل عن الأسرة وعن البنت فصدمته قصة والديها المتوفيين في حادث حركه ودار حديث خفيض بينه وبين أحد الجيران الذين توطدت صلته به وتطورت إلي صداقة حقيقية وكيف أن الرواية مشكوك فيها بالأساس ..وهنا طارت في ذاكرة الرجل قصة إبنة شقيقته مودة التي فقدت في الحدائق العامة قبل ما يقارب الخمسة عشرة عامآ ..تفرس في ملامحها بعمق فلاحظ الشبه الشديد بينها وبينه وبين شقيقته فأرسل في طلبهما وكانا قد انتقلا للعيش خارج العاصمة ..قال لهما بالهاتف أتركا كل شيء واحضرا حالآ للخرطوم ..لم تصدق السيدة ما تراه راي العين وهي التي كانت دائمآ تؤمن بأن طفلتها عائدة لها ..واجها والدتها المزيفة وزوجها بشكوكهما واقترحا حل الموضوع وديآ باعتبار أنهما يؤمنان بأن قصدهما كان نبيلآ في رعاية طفلتهما حتي صارت فتاة وأنهما لابد أن يكونا قد بذلا كل ما بوسعهما لإعادتها لهم ..إنتفضت السيدة تلك وكأنما لدغها ثعبان وثارت في وجههما ثورة لا قبل لهم بها وطردتهم من المزل بل ونادت علي ابنتها لتقول لها أن هذين المحتالين يدعيان بأنهما أمها وأبيها وأنهما يريدان أخذها منهم ..تعلقت الفتاة برقبة أمها المزيفة وهي في حالة أقرب للهستريا وصارت تردد ( لآ ..لآ ..أنا ما بعرفكم ..أنا ما عايزاكم ..ماما ما تخليهم ياخدوني منك ) وتجمع الجيران ليشهدا ذلك الموقف الغريب ..غادرت أمها المنزل مسرعة وكذلك فعل أبوها وهي تولول ( بنتي ..موده بنتي ) ومن ثمّ انتقل الموضوع برمته للشرطة التي استجوبت الشهود من الطرفين ولاحظت ضعف رواية الأم المزيفة ذلك أنهم وبعد البحث في دفتر الشرطة لم يجدوا أية إشارة لحادث الحركة المزعوم وأخذت عينة من دماء الجميع لمقارنة بصمة الحامض النووي لتؤيد النتيجة دعاوي الأبوين الحقيقين ..وفي داخل المحكمة تشبست الفتاة بأمها الثانية بعد أن نطق القاضي بالحكم لصالح الحقيقة ..وتطلب تدخل خمسة من رجال الشرطة الأشداء لفصلهما عن بعض ..وأخذت الأم ابنتها بمساعدة الشرطة وهي توجه لها السباب واللعنات وتنشب أظافرها في وجهها بصورة أقرب للجنون ..وهي تردد ( حرام عليكم ..عاوزه أمي ..عاوزه أبوي ) .