[/CENTER]
بعد اليوم،لن تنال من قدرك الألسنة السليطة لهذه الثلة من المشردين والمعتوهين والصبيـة وعابري سبيل.ألم تكن تضايقك النظرات المهينة حتى ممن كنت تظن أن من طبعهم الرزانة والتعقل؟إلى متى ستبقى عرضة للفرجة أمام سفلة الناس وعامتهم،في الفضاءات المكشوفة وعلى قارعة الطرق؟
وهذا الآدمي الجشع المقامر..أنت بالنسبة إليه لست سوى رقم خاسر من بين مئات الأوراق الخاسرة لضحاياه من الزبناء المقامرين المخدوعين..أنت يا رجل شرَك منصوب لاجتذاب المغفلين المقدِّسين للحظ والنصيب..تحرك مؤخرتك في كل الاتجاهات على زعيق نبرات رتيبة خانقة أمام الرائحين والغادين..ألا يكفيك ما عانيته ولا تزال تعانيه من ترحال وجرجرة في ربقة هذه المساكن الخشبية لملاعب القمار المتنقلة عبر المدن والقرى والمداشر،وعند نهاية الشهر ينفحك هذا المقامربأجرسخيف لا يكفي حتى لاقتناء قدر بسيط من مساحيق تمررها على وجهك الملطخ بتجاعيد الزمن المقيت ؟؟
ردد ذلك في غور ذاته ثم استوى منتصبا على قدميه في مخبئه داخل إحدى غرف ملعب القمار بعد يوم شاق من "هزّياوزّ"..صدى جعجعة المكبرات الصوتية وصخب المكان لا يزال يرنّ في أذنيه..ومع ذلك،فقد بدا له أن هذا المساء ليس كغيره مما مضى من المساءات الطوال..كان يكاد تزهق روحه في خضم هذا الحيز المكاني الخانق على مدى سنوات؛ لكنه اللحظة انتابه إحساس بمتعة الانفراج؛وكيف لا يغمر كيانه وهج ابتهاج بعد أن توسط له أحد الزبناء من رواد ملعب القمار للاشتغال في أرقى ملهى ليلي بالمدينة...؟
اتجه نحو حقيبة الملابس في إحدى زوايا الغرفة..انتقى منها لباسا للرقص برتقالي اللون،ذا فتحات جانبية مع زخارف مطرزة بخيوط من أشكال قشيبة تتدلى منه حبات خرز تحدث خشخشة خلال عملية الرقص..طراز من الألبسة قلما احتوى جسده النحيل إلا في مناسبات خاصة..ارتداه بعناية أمام المرآة الممتدة بطوله على الجدار وشرع يسترق النظر بمقلتيه الجاحظتين إلى سائر أجزاء جسده مستطلعا إياها من كل الزوايا والأبعاد..تطلع إلى ملامح وجهه الباهتة ثم أخذ يجري لمسات خفيفة بأحمر الشفاه على مستوى شفتيه الذابلتين..عدّل من وضعية حمالة النهدين وسوى من خصلات الباروكة على رأسه..هز حاجبيه وانفرج ثغره عن ابتسامة عابرة سرى مفعولها في أوصاله...
أدخل شريط الكاسيت إلى آلة التسجيل ثم ضغط على زرالتشغيل..انطلقت المعزوفة الموسيقية بداية بإيقاع بطيء،وبموازاة مع ذلك شرع في إجراء البروفة قبالة المرآة المصقولة:
عدّل من وضعك يا رجل وأدّ التحية لزبناء الملهى وابتسم ..لا.. لا..ما هذه الابتسامة الجافة؟ أنت لم تعد فوق خشبة ملعب القمار..حسنا أعد المحاولة ثم انطلق..جميل..حاول أن تكون خطواتك متزنة ومحسوبة بدقة ثم تحرك بطلاقة وحرية، فحلبة الرقص في الملهى ستكون أكثر رحابة مما كنت تعتقد..
جيّد..جيّد..الاهتزازات والإيماءات ينبغي أن تكون في انسجام مع الوحدات الإيقاعية:تك تك دم..تك تك دم..لا..لا..لِمَ القفز هكذا؟أنت لست قردا لمهرج في السيرك يا رجل !..واصل..جميل..ركِّز على هز الأطراف وعلى الخصوص هز الوسط..
لا..لا..البشاشة البشاشة يا رجل حتى وإن انتابتك لحظة انفعال..ما هذا التهور؟أنت أمام خليط من زبناء ذوي ذوق رفيع ومن طبقات راقية..حتمًا سيغدقون عليك من نعمهم وسينهال عليك المخمورون منهم بأكداس مكدسة من الأوراق المالية إذا عرفت كيف تستميلهم..وربما وقع أحدهم في مصيدتك الليلة..من يدري؟..كن لطيفا ودودا مع من يراقصك منهم لكسب رضاهم ورضى صاحب الملهى..
حسنا..القدمان يا رجل عضوان أساسيان في عملية الأداء ..حركهما بخفة ووئام مع قليل من السرعة فقد دخلت في مرحلة الإيقاع السريع إيذانا بالنهاية..لا..لا.. ماذا تفعل؟ حذار أن تدكّ بهما الأرض دكا مثل البغل كما كان دأبك على ذلك في السابق..انتبه الوصلة على وشك النهاية..ممتاز..رد بالتحية على تصفيقات الجمهور.خطوة إلى الأمام..انحناءة..خطوة إلى الوراء.. انحناءة..برافو !!.. برافو!!
توقف الشريط عن الدوران..انتهت البروفة..تطلع إلى المرآة بنظرة زهو وإعجاب..عرق غزير يتصصب من جبينه الملتهب..مسحه على التو بمنديل من ورق..تمالكه إعياء شديد فتهاوى بجسده المتهالك على السرير"الخردة" ذي الأغطية البالية..غرق في لجة من أحلام يقظته:أدرك أن لا شيء يشغله الساعة إلا أن يكون عند حسن ظن الجميع وإلا أن ينال الرضى والحظوة في الغد القريب....