كانت كرة سوداء تتحرك في داخلي بلا هوادة، تركلها أقدامٌ ما ثم ترتطم بأركاني، تزلزلني بعنف ولا ألوي على شيء، أبدًا .
لحظة تأمل خاطفة .. تفعل هذا كله، تهدم أشياء وتبني أشياء أخرى وترعد وتزبد وتختزل الحياة في شعورٍ يتيم .. الخوف، الخوف العميق الذي جعلني أعتزل جداري العتيق وقد كنتُ أتسلقه صباحًا ولا أغادره إلا لمامًا، أرى فيه الجانب الآخر من الحيّ، الشارع الإسفلتيّ والبيت المتطاول ببذخٍ أمام بيتنا الصغير، ثم سيارة جارنا الذي لا أعلم لمَ اختار أن يعيش في هذا الحيّ المُعدم وهو المترف المدلل الـ يرفع طرف ثوبه - كـعروس - حينما يسير في الأزقة المتسخة، ثم يطلق تأففاته حين يراني دون أن يهديني ابتسامة أو يشيح بنظره عنّي .
الخوف الذي جعلني أتخيل أن أحدًا يسير بداخلي .. يتحرك ويدير شؤوني بنفسه ويدخل معي تحت اللحاف ويهمس في أذنيّ باسمي مرارًا .
فقط لأنني نظرتُ لأسنانها، ثم يديها، ثم خفتُ عليها .. فتسلل الجنيّ إلى جسدها، ثم إلى حياتي ؟!
هل تحدث الفجائع بهذه البساطة ؟ بهذا التسلسل العجيب .. الفجائيّ والكارثيّ في آن ؟
وصارت طريحة الفراش، لا تشعر بيديها .. ترفعهما والدتها صوب عينيْها ثم تهمس : نادية، انظري، ما زال لديك يديْن .. فيتحول السكون إلى صُراخ .. ترتجف أطرافها، يخرج الزبد من فمها .. تصرخ وتصرخ .. ويختلط بكاؤها بكلامٍ لا يفهمه أحد، ثم تسكن تدريجيًا، تموت شيئًا فشيئًا وتغطّ في نومٍ طويل لا يشتت هدأته غيرَ أنـّات متقطعة .
أقترب منها وأتحدث معي، بصوتٍ لا أكاد أسمعه ..
تأنّين يا نادية ممّ ؟ أنا صديقتكِ .. شريكتكِ في الضجيج، في الفقر، في الحزنِ الساكنِ البعيد الذي لم نرَه يومًا لكنّا شعرنا به ونحن نضحك .. ونحن نقتسم فطائر الصباح، ونحن نقف في أول الطابور ونصمتُ عن ترديد النشيد الوطنيّ .. لأنه لم يكن هناك وطن .. أخبريني ما بك ؟ سأعطيك يديَّ .. إحدى اليدين فقط .
وأبكي، وتبكي معي والدتها، تحول لسانها السليط إلى قطعة لحمٍ جافة بالكاد تردد الأذكار وتحوقل، تحولتْ لأمّ .. وقد كانتْ شيئًا آخر لا يعرف الأمومة، للمصائبِ وجهٌ حسن .. لكن ما جدوى هذا كله ونادية الآن لا تستيقظ إلا لتبكي ثم تصرخ ثم تنتفض ثم .. تنام ؟!
ويدخل أبو أنف، يواري وجهه سريعًا ثم يتنحنح وألتفتُ .. ثم أقفز إليه .. بيأس .. بحزن .. برغبة الأنثى الدفينة في أن تبكي بين يديْ ذكر .. وإن كان طفلًا لا يجاوز الثالثة عشر، وإن كانت صغيرة لم تتخلص بعد من أسنانها اللبنيـّة :
أبو أنف .. نادية .. بتموت ؟!
يقول – ولا زالت يديْه تخفي معالم وجهه .. أنفه تحديدًا - : لا، ادعي لها .
هكذا .. بحزم، بجدية، برجولة مبكرة جدًا، يتصرف كالكبار، كما لو أنه " أب " .. يحفظ ما يقولونه .. ليردده في الوقتِ المناسب أو غير المناسب، أنظر إليه .. كأنني أتوسل منه شيئًا آخر غير أن .. هذه الكلمة : أدعو لها، ما هو الدعاء ؟
أتشبث بثوبه هذه المرة :
- مازن علمني كيف أدعو لها ..
لا أدري هل وقع في ورطة، تجمّد فقط .. ابتعدتْ يديه عن وجهه تلقائيًا .. نظر بدهشة :
- ما تعرفي كيف تدعي ؟
- لا !
- قولي : الله يشفيك يا نادية ..
- بسّ ؟
- أيوا بس .. لمّا تصلي .. ووجهك ع الأرض قولي كذا ..
- انت تسوي كذا ؟
- أيوا .. والوالدة والوالد يدعون لنادية .
يقول : الوالدة والوالد،.. تبدأ الرجولة في الشخصِ حينما يتنصل من قول : أمي / أبي، نوعٌ من الاستقلال .. أو الخجل من التبعيّة، من الألفاظ التي تذكره بالطفولة واحتياجاتها، مازن يعتقد أنه رجل رغم أنه بلا شارب، ورغم أن صوته يشبه صوت نادية إلى حدّ كبير، ورغم أنه .. ما زال يدخن السجائر الورقية !