ما زال أهل القرية التي تسكن في سفح "جبل النسر" يتحدثون عن البندقية العابثة التي أودت بحياة نسرهم الجميل الذي ألفوه من سنين طويلة و هو يحلق في سماء قريتهم مشكلاً لوحة تنبض بالزهو و الكبرياء و كان يعيش عالياً في قمة الجبل بعيداً عن أيدي و عيون المتطفلين . كان صاحب البندقية رجلاً قد عاد للتو من غربة طويلة و قد إكتسب هواية جديدة أخذ يمارسها في طيور القرية الوادعة ...... كانت تجلس مع إبنها الصغير في حديقة المنزل الغنية بذكريات أحاديث و همسات و مداعبات زوجها الذي غادرهم شهيداً قبل سنة . تلقت هذا الصباح مكالمة تلفونية من أخٍ لزوجها يعيش في بلد بعيد و سيأتي لزيارتها و إبنها اليوم . كان نعيق بعض الغربان ما زال يُسمع في أنحاء القرية منذ مقتل النسر . يحاول الطفل الذي لم يبلغ السادسة بعد أن يتسلق الشجرة الكبيرة التي تتوسط الحديقة و تفرش جذورها تحت البيت كلّه . عندما وصل أخ الزوج الشهيد كانت ......في إستقباله و فضّل أن يجلس في الحديقة . كان قد أحضر إبنه الصغير معه ليتعرف (كما قال) على إبن عمه . بدأ حديثه عن الكارثة التي حلّت بالعائلة بعد غياب الأخ الأصغر و إستشهاده . و عن إلحاحه على أخيه منذ زمن بعيد أن يترك القرية و يأتي ليعيش معه في ذلك البلد البعيد حيث الحياة هناك تستطيع أن تعطيه الكثير و تنشله من عالم السياسة و ألاعيبها الدنيئة . و بأن أحلامه في تغيير هذا الوطن و تحريره لم تجلب له غير الموت تاركاً خلفه زوجة و إبناً وحيداً و تحدث عن محاولاته العديدة لإرسال المال له و الرفض الدائم من قبل أخيه للمساعدة .
أفاقت و عادت من عالم ذكرياتها و أحاديث الزوج الشهيد عن عالم مليء بالمثل و القيم و الحرية . كانت تراقب إبنها و قد إستطاع تسلق جذع الشجرة و الوصول إلى الأغصان الأقل سماكة من الجذع . تذكرت زوجها عندما كان يحمل الصغير و يساعده على التسلق و يقول له : ذات يوم ستصعد الشجرة لوحدك و عندما تصل لأعلاها ستستطيع أن تحلق مثل نسر قريتنا الجميل .
كان صوت نعيق الغربان يعلو أكثر
عاد الأخ للحديث عن أخيه الشهيد و أخبرها بأنه كان مختلفا عن إخوته و أقرانه و لم يكن يشاركهم إهتماماتهم و لعبهم و إنما يلجأ لعالم آخر صنعه بنفسه و ما كانوا ليفهموا هذا العالم لأنه كما يرى عالم خيالي و رجاله قد أتوا من الأساطير و الخرافات .
توقف عن الحديث عندما رأى إبنه و هو يحاول أن يصعد الشجرة مقلدا إبن عمه . فزجره و نهاه و حذره من أن تتسخ ملابسه أو من الوقوع و إيذاء نفسه و أن لا يقلد إبن عمه المجنون كأبيه .
بين حين و آخر كان يأخذها من ذكرياتها بأسئلته المفاجاة , لكنها لا تلبث أن تعود لها بعد ردّ مقتضب . و عندما قرر المغادرة أمسك بيد إبنه و قال : يجب أن تغادري هذه القرية اللعينة التي تبعث على الكدر و الضيق .
أمسكت بيد رَجُلها الصغير بعد أن نزل من على الشجرة ممنياً النفس بمحاولة أخرى للصعود و الوصول للقمة و من ثم التحليق .
فتحت الأم باب البيت , قال الصغير منزعجاً و هو ينظر للخلف:" نعيق الغربان يملأ المكان يا أمي "
قالت الأم و هي تضع قدمها داخل البيت و ظلال من الذكرى بدأت تعبر الذاكرة :"النسر مات .... سنسمع النعيق كثيرا "
إلتمعت عينا الصغير و قال " إذاً لا بدّ من نسر آخر"