الملاحظ في التاريخ العربي أن الإمبراطورية العربية، بعد أن وصلت إلى أقسى توسعها، أخذت تتقلص وتتفتت تحت تأثير عوامل كل جنس، شأنها في ذلك شأن معظم الإمبراطوريات الكبرى في العصور القديمة والوسيطة..
وقد بدأ التفتت السياسي والاجتماعي في الإمبراطورية العربية منذ ما قبل الحروب الصليبية بكثير.. وكان لهذا الحادث أثره العميق في حياة المجتمع العربي والفكر الحر فيه، لأن الاضطراب الذي ألم بالعرب فتح أعين الغرب عليهم، ونبه الشعوب الغازية لاجتياح بلدانهم.. هكذا انثالت الضربات المتوالية على العرب فشلت أوجه نشاطهم، وحكمهم الأجانب، ففقدوا حريتهم، وبالتالي فقدوا الفكر الحر، والإبداع الأصيل ومتابعة العمل العلمي، وغدا كل ما يقال معادا مكررا تمجه النفوس.
ومن سوء الحظ أن البلدان العربية بحكم موقعها كطريق للعبور، كانت ولا زالت مسرحا لغزو الشعوب الغربية والشرقية، وأن موجات الغزو كانت تترى عليها كاسحة ومدمرة، فما أن تنحسر عليها موجة إلا وتطغى عليها موجة أخرى. وهكذا عانت البلاد العربية من مد الغارات ما عانته أوربا بين القرن الثالث والتاسع، والقرن الحادي عشر، ولا تكاد أعمال البناء والإنشاء تعاود سيرتها الأولى إلا وتأتي موجة غزو عارمة تقوض ما بنته الأجيال الجديدة. وما من شك في أن أعمال الفكر لا تنمو وتزدهر وتعطي ثمارها إلا في ظل السلام والأمن، وما كان السلام والأمن بموفورين للبلدان العربية إلى يومنا هذا.
كانت العناصر الأجنبية التي أدخت في الجسم العربي تفتك به سرا وعلانية، والثورات والنزعات الانفصالية تعمل عملها في إضعاف هذا الجسم، حتى أن الإسلام وهو مصدر قوة العرب فهم على غير حقيقته الأولى، وأنه استسلام لطغيان البشر، وألصقت به الكثير من البدع والخرافات والأحاديث المنتحلة، هذا إلى أن الشعوب الصحراوية من تركية وتترية ومغولية، التي ابتلي بها العرب على مسار تاريخهم الطويل كانت شعوبا بدوية وغير متحضرة، همها السلب والنهب، وفرض الضرائب والسيطرة بالإرهاب والإعدام مما لا يقره عقل أو قانون متحضر.. وجو الإرهاب، إذا خيم، شل النشاط، وبدل الطباع، وشوه الأخلاق وجعلها أقرب إلى الملق والرياء والمداهنة وما إليها من أدب رخيص.
وعندما ظهر العثمانيون على المسرح السياسي، كانت البلاد العربية في حالة خدر وإعياء تام، ولم يلقوا مقاومة تذكر إلا قليلا، فضلا عن أنهم جاءوا إليها باسم الإسلام ومخلصين لها من غارات البرتغاليين والأسبان بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى في القرن السادس عشر، وباسم الإسلام فتحت لهم الأبواب، وباسم الإسلام أصبح العثمانيون سادة البلاد العربية.
ولكن ما هي الحضارة التي كان عليها العثمانيون أيام الفتح؟ لا شيء. وفاقد الشيء لا يعطيه.
لم يكن للترك دين خاص، ولا حضارة خاصة، وكل ما عندهم لغتهم التركية، وقد أخذوا عن العرب الدين الإسلامي والكتابة العربية، وتركوا العرب وشأنهم بعد أن أثقلوهم بالضرائب من كل نوع وحكموهم حكما عسكريا.. وظلت هذه الحال إلى أن أشرف الرجل المريض على الهاوية..
في القرن التاسع عشر، قامت حركة الإصلاح والتنظيمات في البلاد العربية تسوي بعد استقلالها من الرعايا مواطنين، ولكن بعد فوات الأوان، فقد أدركها اجتياح تيارات الغرب من جديد، عاصفا بالعرب والترك معا، وأدى بعد ذلك إلى الانفصال والقطيعة..
وقد كان من الممكن أن تتحقق أشياء كثيرة في عالم الفكر العربي بعد استقلال البلاد العربية، وأن تتواجد طبقة علماء مستقلين يسهمون في العمل العلمي، والمادي، والتكنولوجي على الأقل، لكن الكثيرون اصطدموا بعقبات جمة عندما تغلبت المنافع الزمنية على الأفكار العملية فيهم.. بالتالي ثم حشر كل مجموعة منهم حسب حدود دولتها المقسمة وما ترك لأيديها العمل خارج مبدأ الدويلة الواحدة.
وفيما نراه اليوم أيضا، فإن العلماء والمفكرين من خريجي الجامعات الأجنبية، وهم لا يمتازون عن أمثالهم من علمائنا ومفكرينا ذكاء ومعرفة، يجدون في بلدانهم كل الإمكانيات المتاحة للنهوض وبالعمل العلمي، والمشاركة في إغنائه وتقدمه، وطرد الجهل، نلاحظ أن علمائنا ومفكرينا لا زالوا يجدون في بلدانهم كل المعوقات بتواجد أفكار انتهازية ووصولية وقصيرة النظر من طرف المسئولين عليهم.. وفي مثل هذا الأجواء، لا يمكن للعلم والفكر أن يتحررا أو أن يتقدما إلا خطوات معدودة.
ومع كثرة المعوقات، نضيف بشيء من الأسى، أن الكثير من المفكرين اليوم أصبحوا لا يؤثرون سوى السلامة، ويرفضون التحدي، ولا يتحملون مسؤوليتهم كقادة فكر وموجهين. ولو فعلوا ذلك لفرضوا أنفسهم على مجتمعاتهم واستطاعوا أن ينيروا السبيل أمام الأجيال الصاعدة، ويخلقوا الأجواء العلمية والظروف المساعدة لها رغم أنف كل مسئول أو حاكم يرى من مصلحته الإبقاء على تخلف شعبه قدر الإمكان..
إن روح أي عصر من العصور، وفي أي بلد من البلاد، لا يتمثل بعقلية الكتل والدهماء والجماهير القاتمة ورجال الشارع، والمسئولين الفاقدي البصر والبصيرة، بل بعقلية الصفوة المختارة، حملة المشاعل في ديجور الحاضر لفتح طريق المستقبل.. ولن يكون ذلك إلا إذا ما آمن كل عالم ومفكر برسالته وشعر بمسؤوليته اتجاه بني قومه رغم تعرضه للاضطهاد ومحاصرته من قبل من لا يفقهون أفكاره المتقدمة والعقول منهم متفتحة على كل ما هو فان.
وبعد ربيع الثورة.. تلك التي اجتاحت كل رئيس رابض فوق كرسيه المرصع، مطمئنا إلى استغفال شعبه زمنا طويلا، ورغم سيلان لونها الأحمر القاني في كل الدروب، نحن اليوم بحاجة ماسة إلى ثورة علماء ومصلحين، نحن بحاجة إلى شخصيات فذة وضمائر حية ثائرة على القسر الاجتماعي، وعلى كل ما تعارف عليه الناس من جهل ألفوه حتى عد شيئا ملازما لهم وتقليدا أرعنا موروثا تجب حرمته.. علماء ومفكرين مصلحين يحررون العقول من قيود الأسر التي ترسف بها، ومن الأغلال التي تشد أعناقها، ومن الأخطاء المزيفة التي أفسدت العقول، وجعلت عصور الظلام تمتد حتى عصرنا هذا.
نريد أن نتحرر بما يكفي من وعي سليم لرؤية كل ما سبق من مطبات بالتالي تفاديها مستقبلا، على كل صعيد، وفي كل ميدان من ميادين المجتمع، ابتداء من التربية وانتهاء بالمناصب الكبرى، نريد أن نمشي على نفس الطريق التي مشيت عليه الأمم الراقية قبلنا وما زالت تغذ السير مع إضافة عنصر الإسلام مصابيح منيرة على جنبات الطريق..