أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: كل عام وأنتِ بخير

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jul 2011
    المشاركات : 9
    المواضيع : 3
    الردود : 9
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي كل عام وأنتِ بخير

    كل زهرة تفوح كمبخرة
    والكمان يرتعش كالقلب المُعذب
    { بودلير}

    هناك، حين تنصرف التفاصيل التي تملأ اليوم ، ويُغلق الباب مع دقات ساعة حائط المبكى الليلي؛ وحين يدخل كعادة كل يوم مع النوم فى صراع من أجل البقاء ؛ يجد الماضي شاخصا عند باب الغرفة، يتحرك متجها إلى الفراش كشبح مخيف ، يتذكر يوما من أيام خريف هذه المدينة المُفعمة بالسحر، سفينة ترسو في رصيف الميناء ، يقف على ظهرها قاتلٌ مأجور يحمل نفس ملامحه، ومقتول في آنٍ واحد، ينظر إلى سيدة تحمل ملامح نفس ذاك الملاح المغامر الذي شيّد هذه المدينة؛ تقف تودعه .

    كان راحلا لوجهة يعرفها ولا تعرفه ؛ كانت يداه ثقيلة؛ يريد أن يرفعها لكي يودعها وداعا يليق ، ولكنه كان كمن يغرغر ومن ثم سيموت ، تثاقل الجسد كله، أشفق عليها من طول الوقت حتى ارتفع سُلم المسافرين من فوق الرصيف، نظر إليها وللمدينة التى كانت مثلها تبتعد شيئا فشيئا ، صوتان كريهان : صراخ النساء وعويلهن يوم ماتت أمه، وصوت هذه السفينة الذي يسحب روحه من شاطئ هذه المدينة المتغلغلة فى نفسه .

    تذكر النهار الأخير في مدينته، ضجيج الشارع وغبار الإسفلت وفنجان القهوة المُر، وبعض الفراغ، وجريدة أجنبية تحمل دليلا حاسما على الرفض، وأخبار حرب لم تكن تشغله كثيرا، شقق القمار وفلول فتيات علب الليل في الزمن الضائع، وحاناتٍ تعرفه كزعيم تولى قيادة الصعاليك فى ثورة شاملة حدثت في غفلة من النظام ؛ تراثه على هذه الأرض المُبتعدة مؤلمٌ جدا .
    واقعيا لا ينتظر الشفقة ، لكنه أشفق على نفسه كثيرا، ظلمته الظروف فى لحظة عمياء ، كان شيوعيا على طريقته الخاصة ، كان ذكيا ربما، ولكن فى غياهب المعتقل، لعن كل مسميات الذكاء التى يتحدثون عنها، خرج وصديقه الوحيد الذى جاد به الدهر بعد سنوات الجحود والنكران واليُتم، جلسا يراجعان كل شيء، إلا صداقتهما الرائعة، عاشا الكارثة بكل تفاصيلها المؤلمة، عاشا الضياع فى قمة تجلياته، تاريخهما معا؛ تاريخ الأرصفة والشوارع والبارات والبلياردو والمسارح وعلب الليل .

    كان يتعلل بالتعب وينصرف فى هدوء الموتى، ويظل سائرا من شارع (السلطان حسين) حتى سور كلية الهندسة، هذا المبنى كان يستحق أن يُعمره بآماله، أروقته وقاعاته، أساتذته، كل التفاصيل حتى الصغير منها شعر إنه يفتقدها بعنف، أخذ ينظر من بين السياج الحديد، ويحلم من الوضع واقفا، وكأنه يدير حلقة للدرس، يمنح الطلبة الكثير من عشقه لهذا العلم، يفيق ليجد دموعه المُحبطة قد بللت كل شيء، ولولا إنه ينظر لدار ٍللعلم، لظن من يراه فى هذا الليل إنه لص ينتظر الفرصة لأن يسرق كل شيء ، يذهب للنوم فلا ينام، فاليوم خيمة السيرك وهو لاعب (العُقلة) الذي يتأرجح من أعلى إلى أسفل، يباغته القدر بواحدة من أعنف صدماته، نزل إلى الشارع المدجج بالصمت، بعد أن قضى بعض الوقت فى بوهيميته، شعر ببعض الجوع من فرط ما شربه في هذه الأمسية ، يلتقي (الجندي) مخمورا هو الآخر، عند ميدان محطة مصر، تتشابك يده بيده ؛ ويتشابك كل إحباطٍ يحملانه ، يصل قبله ، يودعه راثيا لحاله، ويظل هو صاعدا إلى حيث بيت {رتيبة} تلك المرأة الرجل التى صنعت بتعاليمها أركانا كثيرة من أسطورته فيما بعد، ترحمه من تساؤلاتها عن تلك السهرات وهذا الغياب وهذا الضياع، تريد من فرط حبها وتعاطفها أن تختلس بعضا من الوقت لتنظر إليه وتحدثه، تتعلل بالجوع، يقوم كأي أبن بار ويأتي لها بالطعام، يناديها فلا ترد، ظن إنها تتدلل عليه كتعبير رحيم عن غضبها، يناديها مجددا فلا ترد، يتجه مندفعا إلى غرفتها المُعطرة بالصلوات والدعاء ، كانت غرفتها أطهر بقعة في عالمه، يقف مرتعدا من جلال الموت الذي ارتسم على ملامحها المضيئة فى هذه اللحظات، يدرك الحقيقة، لم يكن متاحا لها أن ترد وهى فى حضرة من هو أعظم من كل شيء، يصرخ: يا رب. لقد كانت جائعة قبل لحظات قليلة، كيف ترسل من يقبض روحها جائعة؟ لكنه يعلم أن طعام الله سيكون مذاقه أكثر جمالا وروعة، كانت التجربة مريرة ومن وقتها وللآن لا يطيق أن يتناول الطعام منفردا، فإن كان الموت فى الماضي حسبما فهم حلا هروبيا من مشكلة ما، فالموت بعد موت {رتيبة} قد أكتسب معنى إضافيا ؛ أدرك أن الموت فى واحدٍ من معانيه؛ أن يأكل منفردا .

    كان دائما يسأل نفسه. لماذا لم يتخلص من الحقيبة التي أتى بها طفلا إلى هنا؟ سبعة وعشرون عاما، الرحيل فيها جزء من تراثه ؛ عقد العزم وملأ الحقيبة ثانية، كان ضروريا أن يراود غضبه وكراهيته لجذوره، رحل إلى قريته؛ لا من أجل توديع الأحياء الذين كانوا وراء نفيه ، بل هو ليس يتيما منفردا تماما، فهناك قبران وبيت، تجمعت الأموال اللازمة لرحيله، كانوا أكثر سخاء مما يتصور، فكّر واحدٌ من أخواله أن يصاحبه فى زيارة قبر أبيه وأمه في ختام الزيارة، ولكنه رفض، كان يريد أن يأنس بهما وحده ، قرأ قرآنا كثيرا على قبريهما؛ ربما لم يكن يمتلك اليقين الحاسم وقتها فى فائدة ما يتلوه ، لكنه كان يشعر براحة غريبة مع الاستمرار فى التلاوة، كان الوقت الذى استهلكه عند قبر أبيه أكبر من ذاك الوقت الذى استهلكه عند قبر أمه، كان يشعر أن فى هذا قمة العدل، كان يتمتم : لقد عاش أبى فى صحبتي عامين، بينما هي ست سنوات، ليس سهلا على كل حال أن تُختزل السنوات الأربع فى مجرد ساعة إضافية يمنحها لأبيه، لكنه أبوه ؛ هكذا قال وهو يبكى الاثنين معا .

    بكى كثيرا لكنه عاد إلى بعض الهدوء، اعتلى منبر اللحظة وصار يهتف في الفضاء البعيد والقبران بينه وبين المدى الفسيح.
    أبي ؛ ما سر هذا القتام؟ فلقد مُتَّ قبل أن أمارس معك بعضا من عقوقي، أي عدلٍ هذا الذي يطيح بأحلامي فى هاوية هذا الكابوس؟ كيف لي أن أمضي عامين كطفل ضائعٍ وتموت وأنت شديد الغضب عليّ هكذا ؟ تُراك تراقبني من أبراج الغيب وأنا أمارس هذه السقطات؟ تُراك تستطيع الغضب وأنت في حضرة بارئك؟ ما أشد ظلمك يا أبي !! بحق السماء كنت أحبك، وأتعاطف كثيرا مع مشاعرك المرهفة التي أودت بحياتك، رغم إنني لم أتشرف بلقاؤك في ساحة الحياة المكتظة بالمسافرين.

    أمي !! وعدتك أن أكره الريف والسُل، وألا أعود فلاحا أبدا، وعدتك وأنتِ متدثرة بكفنكِ الثلجيّ أن أنجح، وإلى الآن لم أذق للنجاح طعما، ربما عند الشاطئ الآخر من البحر سأجده، لن أنام، لن أترك لحظة من عمري دون أن أحققه أو أكاد، ولكنك أخلفتِ الوعد، قلت لى لن تتركيني لهم، قبّلتي جبيني وأطبقت عيني على هذا الوعد، وفي الصباح رحلتي إلى الله، من في ملكوت الله يحتاج لأمٍ مثلك غيري؟ الملائكة لا يريدون الأمهات، هم مشغولون بالتسبيح والذكر والطواف السرمدي حول العرش، ربما قد عدتِ طفلة في الفردوس،أو فتاة رائعة الحسن رغم ما كان في ملامحك من لمسات المأساة الثقيلة، لكنك عدتِ لحقيقتك أجمل من أي امرأة في الدنيا، تجلسين مع أبي على الأرائك؛ أشعر بكما، وكأني أراكما، تتبادلان الأنخاب من خمرٍ ٍ لا يشبه ما نشربه هنا في الحانات الأرضية المفعمة بالدخان والجنون، أراكِ تشمين ملابسه السُندسية؛ تقتفي أثر عطرٍ غريبٍ لا تستخدميه عادة، وتقتفي أثر شعرة طويلة قد سكنت قميصه المزركش بالنعيم، أمي هل في الفردوس أيضا تعبث بكم غيرة النساء ؟ مالكِ تصنعين هذا فى أبي؟ علمي إنه يحبك، فماذا يضير أبى إذا عانق حورية في طريق العودة إلى أريكتك المطرزة باللآلئ والنور؟
    أمي اذكريني هناك، واحملي لأبي السلام، ابلغيه إنني كنت دائم السؤال عنه، قبّلي جبينه ويديه نيابة عنّى.

    توقف فجأة، ولم يشأ أن يعكر صفو سكان القبور بحديثه العائليّ المفعم ببعض التجاوز، أنهما لا يستحقان غير البر، فتوقف، فوجد عينيه تذرفان دموعا ربما أودت ببصره، داهمه الوقت فرحل، القطار كالقدر لا ينتظر من أحدٍ غالبا، عاد إلى تفاصيل الرحيل الكبير، في أحضان تلك الفتاة التى كانت في رصيف الميناء، أيام قليلة، غارق في الثمالة، يرقص كالذبيح، ما أصعب{ التانجو} وفي القلب كل هذا الشجن!!
    لم يشأ أن يجرحها، رغم إنه كان مستعدا أن يحبها بشرف، وهي بدورها أدركت إنه لا أمل، فمنحته نفسها كشربة ماء يحتاجها ميت، تنفّسا المتعة حتى انطفأت الشموع في هذه الأمسية الأخيرة. وحين دقت ساعة الرحيل وأتمَّ كل شيء، ألقت العطر في كفيها في الصباح ومسحت بها وجهه الحليق، وظلت تبكي، وراحت تسأله ..
    - ستذكرني؟
    - هل ستعود يوما وتبحث عنّى ؟

    كان يقف كالطود، وهو يسمع هذه الكلمات، كان يعرف أن هذه العبارات من الممكن أن تقتله، كان متعاطفا معها أشد التعاطف، كان يشعر أنه محاصر بعاطفة امرأة محبة، من الصعب الانفلات منها، تعامل مع نساء كثيرات، لكنها حتما تختلف، ليست مثلهن، هي تحبه حقا، لكنه مذبوحٌ من الوريد للوريد، رحيله ليس رحيلا عاديا، ولكنه رحيل من أجواء القتام الذي يغلف مسيرته هنا، مؤكد إنها تعلم، هنالك هزم صمته وقال بصوته المفعم بالحزن:

    - (أسبا) ربما تتعدد الدوائر وتتشابك هنا وهناك، لكنكِ على الدوام مركز الدائرة، تعرفين كيف هو وفائي، لكن من العسير أن أعدك بالعودة إلى هنا، ربما خارج هذه الأرض، فلقد عاهدت نفسي وبعضا من أصدقائي ألا أُدفن فيها، ليس لي أهل غيرك، ولا ينافسك في محبتي إلا الجندي ؛ تعرفيه بالطبع، ساعديني لأن أُولد من جديد، وتابعي أخباري. أرجوكِ.
    خرج معها في اتجاه الميناء في سيارة أجرة، كان يحتاط لنفسه أن ينظر من نافذتها، كي لا يرى أي معالم من ذكرياته الحاضرة في هذه اللحظة، للمرة الأولى التي شعر فيها إنه يبكي من داخله، بدا منضبطا، لكنه كان يرتعش بعنف، تهمة التخلي، ومغبة المجهول الذي ينتظره خلف هذا البحر، هي أيضا بدت منضبطة، لكنها بين الحين والآخر تعطي إذنا لدمعة تخرج في أثر دمعة، كان يراها في مرآة السيارة، صمت طويل، كانت مباراة في قوة التحمل على ما يبدو، لكن وهو بصدد الصعود إلى ظهر الباخرة؛ تعانقا عناقا ظل بطول عمره يبحث عن امرأة تمنحه هذا الإحساس الذي منحته له هذه المرأة بعناقها في هذه اللحظات، ثم وضعت رأسها فى كتفه وبكت حتى انهار هو فى نوبة من بكاء هستيري، وتوسل لها أن تذهب، فبقاؤها واقفة سيطعنه حتما، لكنها أصرت بضراوة على أن تبقى إلى حين الإبحار، كان ثقيلا جدا وقع هذا المشهد، هي والإسكندرية يبتعدان في قسوة، ما كان ليتحمل هذا الطعن الذي تمارسه المسافات التى تبتعد شيئا فشيئا، فاختفى في الداخل، وأسدل معه ستارة مشهدٍ استمر فوق خشبة مسرح لا يعرض إلا نصوص البكائيات العبثية طيلة سبعة وعشرين عاما .

    طاف كثيرا بدروب العمر، عاش الحياة كما قُدِّر له أن يعيشها، دخل بملء إرادته في تروس الماكينة الباحثة عن تحقيق أحلامه، لم ينسها، ظلت ذاكرته مسكونة بها سنوات وسنوات، بحث عنها كثيرا، رحلت لبلدها أخيرا، ولكنها رحلت فيما بعد لجهة غير معلومة، دائما يحن لأن ينظر إليها، وخصوصا عندما تدق التاسعة في ساعة حائط المبكى الليلي، حين يلتقي بالوحدة وجها لوجه؛ بعد يوم تبخرت منه كل أطياف البشر.

  2. #2
    الصورة الرمزية وليد عارف الرشيد شاعر
    تاريخ التسجيل : Dec 2011
    الدولة : سورية
    العمر : 60
    المشاركات : 6,280
    المواضيع : 88
    الردود : 6280
    المعدل اليومي : 1.39

    افتراضي

    سردية رائعة محكمة من صنع مبدعٍ يملك أدواته
    ألا ترى معي أخي المبدع الجميل أن مكانها قسم القصة ؟
    مرحبًا بك وبهذا اليراع المتمكن في واحتك
    مودتي وتقديري

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,151
    المواضيع : 318
    الردود : 21151
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    ما قرأته هنا جميلا جدا .. سحرنى , شدنى
    إلى آخر كلمة . أحسست أننى أمام قاص أستطاع
    أن يربطنى بقصته متابعة متشوقة مبهورة برائعة
    الفكرة والسرد مستخدم صورا غنية نابضة
    دمت قاصا موهوبا ــ وتحية لهذا القلم المسكون بالروعة .

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.70

    افتراضي


    سرد حيكت حروفه بمهارة قصية ونفس روائي وبأداء اعتمد التصوير بمهارة
    غير أنه اشتكى في رأيي إسهابا وتعددا في المحاور لا تحتمله القصة القصيرة

    وشابته هنات نحوية وطباعية من مثل
    كانت يداه ثقيلة
    لم أتشرف بلقاؤك
    قبّلتي جبيني
    رحلتي

    أهلا بك ايها الكريم في واحتك

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

المواضيع المتشابهه

  1. كلُّ عام ٍ وأنت أمي
    بواسطة بشار عبد الهادي العاني في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 25-08-2017, 10:50 PM
  2. للغائبين .. كلّ عام وأنتم بخير
    بواسطة رفعت زيتون في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 31-10-2011, 12:09 PM
  3. فقط كل عام وأنت بخير
    بواسطة أحمد عبدالرحمن الحكيم في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 24-06-2007, 05:31 PM
  4. كل عام وأنتِ بخير
    بواسطة إبراهيم الشريف في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 07-02-2007, 02:14 AM
  5. أمي العزيزة ............ كل عام وأنتِ بخير
    بواسطة شاطئ سلام في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 29-03-2006, 07:34 PM