دخل غرفته بعد يوم عمل مضن . كان قد أمضى نهاره ما بين المكتب والعملاء وما بين الاجتماعات التي يمقت وقعها الرتيب . لكنه لم يدخل غرفته طلباً للراحة،هذه الغرفة البغيضة المملة التي لا تسأم جدرانها من التحديق إليه في بلاهة وهي لا تعرف سبباً لشروده وذهوله و عبوس وجهه وتقطيب جبينه عندما يراها . هي طالما احتوته في أيام التعب والبرد وأيام الإرهاق والحر .
لم يبدل ملابسه، تمدد على السرير مرتمياً كسيف ممشوق طال مكوثه في غمده حتى ظن أنه سيعلوه الصدأ . يا الله، كم يكره هذا السرير البارد برود ذرا الجبال المغطاة بالثلوج، و هذه الوسادة الساذجة التي تنتظر منه كل يوم أن يعانقها ويضمها إلى صدره لكنه لا يفعل . يجب أن يؤدي الفريضة اليومية تجاه الأحلام التي أضنته واستعبدته؛ فهي ترسل إليه كل يوم طيفاً ليزوره، واشترطت عليه أن يكون ثمن حريته هو أن يضع اسماً حقيقياً لهذا الطيف، فإن تحقق الشرط نال حريته ؛وأنهى زمن عبوديته لها، وإن فشل في إيجاد الاسم فسيظل أسيراً مستعبداً لأحلامه طوال عمره .
أغمض عينيه ليرى حظه اليوم . لعل السماء تجود عليه بطيف يعرفه؛ طيف قد يكون مر به في رحلة حياته . فرضت عليه عبوديته أن يصبح كالسندباد يدمن التطواف والترحال حول جهات الدنيا الأربع وبحار الأرض السبعة؛ عله يجتمع في رحلة من رحلاته بطيف يشبه طيف أحلامه المستبدة . اعتاد على شد الرحال وصارت جزءاً من حياته التي استهوته رغم قسوتها .
كانت الشمس تميل للغروب وضوء الشفق الأحمر يضفي على السماء لوناً حزيناً لا يخلو من بعض البهجة . كانت نسمات المساء تتسلل إلى وجهه المرهق عبر النافذة تحاول إنعاش ذكرياته . سئم من التحديق في سقف غرفته الشاحب . أشاح بوجهه صوب الأفق . لاحظ مخلوقة غريبة ترفرف بأجنحتها باضطراب ثم تستقر على سور شرفته . نهض من فراشه وصار يراقبها عن كثب . حاول جاهداً ألا يجعلها تنفر منه . إنها حمامة بيضاء أضناها التعب فحطت على خميلته . كانت ترمقه من بعيد بخجل، حاول الاقتراب منها، خافت منه في البداية , إذ كان كل من يقترب منها يحاول إمساكها و سجنها في قفص ذهبي وهي لا تحب الأقفاص مهما غلا ثمنها .
لكنها في هذه المرة لم تخف منه . لم تدر لماذا شعرت بالأمان في قربه . دنا منها أكثر فأكثر . لمحت في عينيه مدى إرهاقه وحزنه . شعرت أنه لا يمكن أن يؤذيها، لذلك أطالت المكوث ببراءة وثقة .
شعر أنه يراها لأول مرة . لم يسبق لها أن زارته في أحلامه . ياالله، كيف يعرف اسمها وهو لم يرها من قبل؛ لكنه سيحاول، ربما تكون مهمته سهلة وينهي عمراً من العبودية .
دنا منها أكثر فأكثر، لم تحاول الابتعاد . تأمل في بياض ريشها الناصع وبراءة عينيها اللتين تحدقان إليه بطفولة حالمة . شعر أنها تناديه باسمه، إنها تعرف اسمه، كأنها تستعطفه أن لا تبتعد ... ادن مني أكثر . لا بد أن تعرفني إذا كان احساسك لا يزال يقظاً مشتعلاً .
مد يداً مرتعشة، حاول لمسها . فاستكانت للمسته و تركته يمرر يده على رأسها و يمسح على ريشها حتى يصل إلى قلبها . يا الله، كم ينبض هذا القلب بقوة .
فجأة أحس برعشة تسري في بدنه، وشعر بلون الدم الحار يجري في عروقه، وأحس بعطر الياسمين يملأ المكان حوله ويأخذه إلى عالم غريب عن عالم البحار والجبال والأودية التي طاف بها خلال رحلاته السندبادية . نظر الى عينيها مرة أخرى . لمح وميضاً يلمع كسهم ماسي يخترق قلبه . أحس عندها أنه قد طالما انتظر هذا الوميض الذي افتقده في عيون كل الأطياف التي ترسلها إليه أحلامه؛ وميض يضيء شغاف القلب ويسري فيه روحاً فينتشي بالأمل .
صرخ لا هثاً : أيتها الأحلام، قد وجدتها، قد عرفت اسمها، لا عبودية بعد اليوم، قد نلت حريتي . قد نلت حريتي .
خرج من غرفته مسرعاً، وصار يطوف في أركان منزله مردداً بلهفة : وجدتها . وجدتها .
ترى، هل تراوده الأحلام مرة أخرى عن حريته ؟!