خبز وحجر ..
لا ادري .. لا أذكر .. ربما كان الفصل ربيعاً أو خريفاً .. وربما إذا ألححت عليّ في التذكر فستواجه ذاكرة متعبة تحمل من أعباء الحياة وقوارع الزمن الكثير ، فكل فرد منا بات جزءاً من ذاكرة التاريخ يستطيع أن يخبرك ويضع يدك على موضع الجرح أو الفرح ..
حقاً .. لا أذكر !
لكن جدتي هناك بنشاطها المعهود كانت تخبز في التنور الحجري المثبت على سطح المنزل .. كنا جلوساً بقربها نقلّب أرغفة الخبز الحار ، عسانا نجد فيها شيئاً نأكله .. نعم .. لقد كان حاراً ، وربما يخدعك برائحته الزكية ، ولكني لم أخبركم بعد عن محتواه ، ومن أي شيء مصنوع ..
من الشعير لا شك في هذا ، واستطيع الجزم أنه يحتوي على الأحجار أيضاً ، ينبئنا عن ذلك الصوت الذي يحدثه عندما تمضغه الأسنان .. وربما مع قليل من بقايا حيوانات طحن مع ما طحن من مواد ..
ولكنه على أية حال كان الخبز الوحيد المتوفر لنا أكله !
قاسية كانت تلك الأيام .. تغيرت فيها الموازين ، وتبدلت فيها الوجوه ، وتزعزعت فيها القيم ..
ويمكن لخبز الشعير ذاك أن يخبركم بالقصة كاملة ، أو زفير نار التنور كم تركت تلك الأيام من زفرات وآهات ..
كنا نجلس هناك .. على سطح منزلنا .. الجو المعتدل ، عطر الربيع أو الخريف تستروح له الأرواح وتخفق له القلوب ، وخبز حار ..
ولفظ الحار هنا له معناه العميق ودلالته البليغة ، لأن خبزنا ذاك إذا برد تحول حجراً !
غير ذلك الخبز ما كان لنا شيء نأكله على الغداء ..
فجأة ..
دقّ الباب ..
ضيوف من غير ميعاد ..
النظرات المتبادلة .. الابتسامة الساخرة ربما .. التساؤل الممزوج بالحيرة .. تستغرق المشهد كله ..
فلا شيء سوى خبز من حجر ، ولا حاتم هنا فيذبح فرسه ، ولا أنصار يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ..
دقائق ..
فُتح الباب .. دخل ..
يحمل لبناً وبيضاً ..
لبن وبيض وحجر !
ما أجمل هذا اليوم .. وما أعبق العطر ..