* حينما يبكي الرجال فإن شيئاً يحفر عميقاً في دواخلهم *
تذكرت تلك المقولة وأنا أنظر بعيداً متيحاً لمحدثي أن يخفي دمعة سالت غصاً عنه ، مسحها بكمه ونفخ ناراً بصدره كاد حموها يلفح صفحة وجهي.
عرفت الرجل منذ طفولتنا معرفة لصيقة ، ... صموت لا يتحدث إلاّ مضطر للحديث اضطراراً وبأقل عدد ممكن من الكلمات ، لا يدير رأسه مطلقاً فإذا ناداه أحد من خلفه توقف دون أن يلتفت ، فإذا نظر إليك نظر خلالك كأنك زجاج ملّمع !!
كنت ارقب ما يجري أمامي في لحظة استثنائية من الزمان ! وجه أقرب للاستطالة منه للإستداره ، شفته العليا مغطاة بشارب ناعم كثيف كحافة جدول تغطية حشائش السِعدة ، السفلى دقيقة وفيها تحد ورجولة ، أما العينان فتبدوان من خلف عمامة تغطي معظم وجهه وهو ينظر بهما للناس ، اسد ينظر قطيع ظباء من خلف الحشائش !
كان ذلك قبل أن تهبط عليه المعجزة التي حوّلت الحجر بقلبه لقطعة صلصال تموع بين الأصابع وأطفأت الجمر المشتعل بعينيه وجعلتني أسأله كيف حدث هذا ؟
يا صديقي كنّا خمسه رجال ، نفعل ما نشاء بالحياة ، نقطع الطريق في أوقات مختلفة إمعاناً في التضليل والتخفي ، مقاتلين شرسين وبلا قلوب في جوفهم – وكنت انا استثنائهم الوحيد بقلب من حجر – سلبنا كل من مرّ بنا ، بصات مركبات خاصة .. دواب ، ولم نستثني أحداً .. كل من صادفناه بطريقنا. رجال بدوا اضعف من النساء ! ونساء كن أشجع من الرجال ! ربما لأننا كنّا مسلحين ، ربما ، وربما لشراستنا وصرامتنا وربما للاثنين معاً.
إلى أن كان ذات يوم وقت الظهيرة وسراب الصيف يترقرق من حولنا وغير بعيد منا من شدة الحر. كانت مهمتي تفتيش الركاب وسلبهم ... الأربعة الآخرون بأسلحتهم مصوبة نحونا وبعين علينا والأخرى ترصد الطريق ، وبإشارة مني يتخلى أي إنسان عن ما أشير إليه وبدون كلمة ... موبايل، ساعة ، سلسلة ذهبية او قرط ، كانت أكثر الأشياء نقوداً ، وكنا نرسل الغنائم لرفاقنا في الخلف ونحتفظ بنصيب منها لأنفسنا - كنّا بشراً على أية حال - وجعلت ركاب البص صّفين ، صف للرجال وآخر للنساء وبدأت بسلب الرجال ولم أترك لهم شيئاً ، بعد سلبهم توجهت لصف النساء وكنّ بضع نساء ، كانت أولاهن شابة في العشرين ، تم صمت برهة قبل ان يضيف :- إحدى معجزات الرب على مر العصور ، منحوتة ربانية وتنطوي على أسرار ! نحيلة ... طويلة ... ، حين التقت عينانا أضمرت شراً وأشرت لساعتها ففكت مشبها وألقت بها في صندوق الغنائم ، ثم أشرت لحافظة نقودها فألقت بها في صندوق الغنائم كمن يلقي بكيس قمامه في برميل للأوساخ. فجأة لمعت بإصبعها دبلة او خاتم عرس ، قلت لها وانا أشير اليه :- الخاتم
رفعت الىّ عينان لهما بياض ناصع غريب ، كان بالعينان تحدٍ وجنون ، أدارت الدبلة حول أصبعها ثلاثة مرات وقالت :– لا تخرج – وبدت صادقة.
قلت لرئيسنا : - الدبلة لا تخرج ، قال بسرعة دون ان ينظر ناحيتنا :- اقطع الأصبع.
سحبت سكيني فلمعت كشريحة مرآة تحت الشمس أو كفكرة شيطانية ، سكتت الهمهمات ، وادار الجميع رؤوسهم الناحية الأخرى.
منذ طفولتنا ونحن نقيضان ، .. روحه مستفزة وباستمرار ، يحمل مطواة إلى خصره لا تفارقه أبداً ، وأنا هادئ كقطة أثاث باردة ، ظل جسده النحيل يتوق لروحي الهادئة ، وتتوق روحي لجسد الفهد بجنبيه ، كنت في قرارة نفسي أدرك أن القدر اختار له ولم يختر هو لنفسه ، ... اختار له ان يضعه امام الموت او أن يضع الموت أمامه ، منذ طفولته وهو مولع بالنهايات ، يستعجلها حتى وهو نائم. ولو كانت عقارب الساعة بيده لأدارها باتجاه المستقبل البعيد غير عابه بالعالمين. ورغم محاولة كل مِنّا إجتذاب الآخر لصفة وفشلنا إلاّ إننا ظللنا دون أن نفقد الأمل بنجاح احدنا إجتذاب الآخر ، غير إن إعجاب كل منا بالآخر جعلنا كأقطاب المغناطيس المتنافرة متجاذبة وباستمرار.
اما العقدة في حياته أوقل سره الذي لا يعرفه غيري أن أمه ولدته في نقطة اللاعودة ! نظر إلى على أمل أن أكون سرحت عنه وعن حديثه وخيّل إلىّ انه أُحبط لعكس ما أراد لي كي يريح نفسه عن بقية سرد القصة.
سحبت سكيني فنظرت هي لأصبعها والدبلة وقالت : دعك عن الأصبع واقطع هنا ان كنت رجلاً وأشارت لنحرها الصغير ووضعت أصبعها فوقه بشكل أفقي.
قضيتها مقابل قضيتي . روحها مقابل ما تؤمن به ... كنت اسرق لأجل قضيتي ، ... لمن اسرق ...؟ ، ومن أسرق...؟ هي تحب شخصاً وتضحي بروحها لأجله وأنا ادعي أشياء ولا أؤمن بها.
لحظتها كنت سأقتل العالم ، لقد انتصرت علينا جميعاً وكل الذين أمثالي . صادف كل ذلك وتبعه أشياءاً كثيرة ، أولها إنني تركتها وتركت البص والركاب وأصدرت أوامري لرفاقي بمغادرة البص فامتثلوا جميعاً حتى القائد امتثل وبدون تردد ، وبعد أن غادرنا البص وأصبح خارج نطاق ومدى رصاصنا أخذت بندقيتي وسحبت مشط الرصاص ثم أخرجت تلك الرصاصة ووضعتها في جيبي تذكاراً ، وبحركة لا إرادية تحسست يده جيبه والرصاصة ثم واصل حديثه.
ألقيت بندقيتي أمام القائد وقلت له: أنا طريقي أصبح غير ...
بعدها ركبت بعبرى ولا ادري أين أو كيف لكنها كانت أطول رحلة في حياتي حتى الآن ظللنا نفتش عن ظل الشمس فوق تلك التلال ، أطفأت الجمر بمحجري وصرت أبكي لاتفه الأسباب ، صرت أخاف مواء القطط أو أنباح الكلاب بالليل ، أخاف سماع نقيق الضفادع أو صرار الصراصير ، ... أخاف حتى من نفسي فأبكي منها وعليها أنا الذي لم ينبض قلبه يوماً وكنت استغرب كيف يتدفق الدم في عروقي!
رأيت دموعاً كثيرة لرجال ونساء سلبتهم ، ... كنت احتقر الرجال واعتبرهم أحط قدراً من النساء حين يبكون ! وهاأنذا ابكي كما النساء .
ليتني لم افعل ما فعلت ! ... ليتي ما فعلت
سامحني ... سامحوني... سامحوني جميعاً
لم .. أعد .. أنا ..