العبث بأركان الإسلام
أيها الناس: روى البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان". فالشهادتان: تعني الإقرار بأن الله هو المألوهُ وحده، المعبودُ على الحقيقة, والتصديقَ بما جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, والعملَ بما جاء به الله ورسوله. ومعنى لا إله إلا الله: أنه لا معبود بحق إلا الله. والصلاة: هي الصلة بين العبد وربه، وعماد الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي التي تميز بين المسلم والكافر. والزكاة: هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وقد فرضت لتؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء، ولها أنواع عديدة، وثمانية مصارف حددها القرآن لتصرف فيها. والصيام: من أركان الإسلام, وقد فرض الله صيام شهر رمضان على المسلمين. والحج: من أركان الإسلام, وفرض على المسلم القادر.
أيها الناس: هذه هي أركان الإسلام التي بني عليها، وأما مبناه فعظيم شاهق، أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم، وسكن المسلمون فيه من بعده ردحاً طويلاً من الزمن أعزة آمنين، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم. وكلما رحل قوم من هذا المبنى المؤقت إلى الإقامة في دار المُقامة، خلفهم أقوام حرصوا ما استطاعوا على إكمال المسيرة واللحاق بإخوانهم الذين سبقوهم غير عابثين بثوابت الإسلام وأركانه، ولا مفرطين في جانب من جوانب بنائه. ولما تجرأ نفر مارق منهم على العبث بتلك الثوابت والأركان، وسكت باقي المسلمين عن عبث أولئك العابثين، هدمت الخلافة الإسلامية وضاع المسلمون بعد أن أصبحوا أيتاماً على موائد الكفار اللئام.
أيها الناس: لم يقف الأمر عند هدم الخلافة والعبث بذلك الثابت المستقر من ثوابت الإسلام، بل إن العبث قد بدأ يطال الأركان بعد أن هُدم البنيان. ففقدت كلمة التوحيد معناها عند المسلمين وعبدوا الاشتراكية والرأسمالية وباقي القوانين الوضعية التي أفرزت عليهم أنظمة حكم غير إسلامية كالملكية والجمهورية وغيرها من مبتدعات الحكم الفاسدة، وأطاعوا من أحل لهم الحرام وحرم عليهم الحلال. ثم لحق العبث بالصلاة، وهي التعبير الأقوى عن الحكم بما أنزل الله، من باب تسمية الشيء بأبرز ما فيه. ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن منابذة أمراء الجور قال: لا، ما صلوا، أي ما أقاموا فيكم الدين. وأين هي إقامة الدين؟ وأين هو الحكم بما أنزل الله؟ بل أين هي محاسبة تارك الصلاة؟ ثم عبثوا بالصيام، فما أسفه من قوم يختلف صومهم وفطرهم وهم يعيشون على قطعة أرض واحدة يفصلها جدار أو نهر أو خط حدود وهمي رسمه الكافر المستعمر! وأما الزكاة فحدث عن العبث فيها ولا حرج، فأين هم العاملون عليها؟ وأين هو بيت المال الذي يحويها؟ وأين هي مصارفها الثمانية؟ وكم في المسلمين من لا يؤديها؟ وكم من المسلمين من يحتاج إليها ولا تصله؟ ورحم الله علياً عندما قال: "ما جاع فقير إلا بما منع غني".
أيها الناس: لقد ظن كثير من الناس أن الحج هو الركن الوحيد الذي لم يتم العبث به بعد، وذلك ظن واه ومردود، وتدحضه ثلاثة بنود: أولها أن بلاد الحرمين التي تحوي مناسك الحج لا تُحكم بما أنزل الله، بل قد أصبحت تلك البلاد إرصاداً لمن حارب الله ورسوله من الأميركيين وحلفائهم. وثانيها أن مناسك الحج بدءً بالمسجد الحرام وانتهاءً بمنى ومروراً بعرفات والمزدلفة وباقي المناسك غيرُ مهيأة لاستيعاب أعداد الحجاج التي يسمح لها بالوصول إليها، فكيف لو وصل إليها جميع الراغبين في الحج من المسلمين دون عوائق الحدود المصطنعة، ودون تفعيل نظام الحصص الجائر والموانع الأمنية الظالمة وغير ذلك من الموانع والعراقيل. وثالثة الأثافي أن حكام السعودية وعلماءهم هم الذين يحددون هلال ذي الحجة كل عام دون اعتبار لرؤية أي مسلم على وجه الأرض يشهد أنه رآه، وقد بلغني يوم أمس أن خمسة مسلمين من مدينة طولكرم قد رأوا هلال ذي الحجة مساء يوم الإثنين، أي ليلة الثلاثاء، وعليه يكون أول أيام شهر ذي الحجة هو يوم الثلاثاء، وليس الأربعاء كما أعلنت السعودية، وهذا يعني أن يوم عرفة يكون يوم الأربعاء القادم وليس الخميس، وأن يوم النحر يكون يوم الخميس وليس الجمعة. وعليه فسيقف ملايين المسلمين بعرفة في غير يومه الشرعي، وسيصوم باقي المسلمين يوم النحر المحرم صومه، لما رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه صلى قبل الخطبة ثم خطب الناس، فقال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم عن صيام هذين العيدين، أما أحدهما فيوم فطركم من صيامكم، وأما الآخر فيوم تأكلون نُسُكَكَم.
أيها الناس: لقد عبث الكفار وأعوانهم من الحكام بأركان الإسلام جميعها وزعزعوها، وكانوا من قبل قد هدموا بنيان الإسلام بزوال دولة الخلافة، وفعلوا بين ذلك أموراً كثيرة يصعب حصرها، وليس أقلَّها قتلُ المسلمين ونهب ثرواتهم وانتهاك أعراضهم واختراق سيادتهم وتشتيت شملهم وحصر شعوبهم في سجون كبيرة وصغيرة. وإلا فما معنى الربا المنتشر والسفور والخمور؟ وما معنى الانتخابات التي تكرس الاحتلال في بلاد المسلمين؟ وبم نفسر احتفال أسرى من أعضاء حركة إسلامية في أحد السجون الإسرائيلية بأعياد النصارى كميلاد المسيح عليه السلام، ويخطب فيهم عبر الهاتف بَطريق من قساوسة القدس على ذمة جريدة القدس يوم أمس؟
(الخطبة الثانية)
أيها الناس: يجتمع المسلمون في الحج وهم على هذه الحال من الفرقة والتشتت، بدل أن يجتمعوا على أمير يحبهم ويحبونه، ويصلي عليهم ويصلون عليه، يخطب فيهم وينصح لهم كما كان الحال مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في خطبته بعرفة في حجة الوداع، وكما كان الحال مع الخلفاء حيث كانوا يجتمعون مع ولاتهم يستطلعون منهم أحوال الرعية ويطمئنون إليها، وحيث كانوا يستمعون إلى شكاوى المسلمين ضد إساءات بعض الولاة أو العمال ليقتص الخليفة منهم...
أيها الناس: إن في الحج لمعانيَ عظيمةً إذا استلهمها المسلمون فإنها تغيرُ واقعهم وتحولُهم من أمة شاكية باكية إلى أمة يعقد الله على يديها خير البشرية جمعاء. إن شعائر الحج التي ذهب المسلم ليعظمها مرتبطة بمناسباتها التي كانت سبباً في تشريعها، وما لم يستلهم الحاج معاني الحج ويعش في أجواء مناسباتها ويربطْها بالأجواء التي يعيش فيها فإن مناسكه لا تعدو أن تكون أقوالاً وأفعالاً تسقط الفرض ولكنها لا تأتي بالفائدة المطلوبة عليه وعلى أمته. وإن شعائر الحج ومناسكه تذكر المسلم بعظيم قدرة الله، وتذكرُهُ بالآخرة، وتذكره بالقيام بأمر الله في الدنيا والعمل لإعزاز دينه، والتضحية في سبيله، والسعي في رضاه، والتوكل عليه وحده، والثقة بجميل وعده. نعم إن شعائر الحج كلَّها تدفع لعبادة الله والوقوف في هذه الحياة موقف الحق والصدق، فمن لباس الإحرام وذكرى الكفن والموت، إلى التلبية والطواف في حركة لا تهدأ للتذكير بالدوران مع الإسلام حيث دار، وهكذا السعي وعرفة والجمار لإزهاق إبليس وجنده، وإحقاق الحق وأهله، ثم الإفاضة والوداع. كل ذلك تؤديه جموع المسلمين، رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، يجتمعون على صعيد واحد ويلبون بصوت واحد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). هذا هو الحج الذي يؤكد حقيقة الأمة، بأنها واحدة رغم أنف الطغاة الظالمين، هذا هو الحج الذي ترتعد فرائص الكفار من جموع الحجيج وهم يطوفون حول بيت واحد، ويسعون في مسعىً واحد، ويقفون في موقف واحد. ولذلك عمد الكفار وعملاؤهم إلى ضرب اجتماع المسلمين في حجهم، بإفقاد هذا الحج حقيقته وقوته ووحدته، في شكله ومضمونه، فأصبحوا جموعاً متفرقةً، تجتمع في الحج، وتتفرق بعده، تحت حكم دويلات ما أنزل الله بها من سلطان، تتصارع فيما بينها أكثر مما تواجه عدوها. ومع ذلك فقد بقي هذا الركن يقض مضاجع الكفار وعملائهم، ويخشون هذا التجمع في شكله كما يخشونه في مضمونه.إذ هو شاهد على وحدة المسلمين، وهو اليوم يستصرخهم أن يعيدوا لحمتهم، ويقيموا دولتهم، ويبايعوا خليفتهم، ليعودوا جماعة متماسكة قوية، يقودهم خليفتهم، يقيم فيهم أحكام الله، ويجاهد بهم في سبيل الله، ويحج بهم أمير الحج الذي جعله الإمام الماوردي رحمه الله من الولايات الضرورية بعد الولاية العظمى وهي الإمامة. فأين هو الخليفة؟ وأين هو أمير الحج؟ فأدركوا دينكم قبل فوات الأوان!
أيها الناس: من هنا، من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الأرض التي بارك الله فيها حول الأقصى نشكو إلى الله حكامنا الذين عبثوا بديننا، ومنعونا من تطبيق شرع ربنا علينا، وندعو عليهم ليريحنا من شرورهم. ونشكو إلى الله علماءنا الذين سكتوا عن هذه المنكرات الفظيعة، وندعوه أن يهديهم ويردهم إلى دينهم وأمتهم رداً جميلاً. وندعو الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أن يوحد صفنا ويجمع كلمتنا ويمن علينا بخلافة راشدة ثانية على منهاج النبوة.
خطبة جمعة للشيخ عصام عميرة
الجمعة 4/ذو الحجة/1425 هـ
14/كانون ثاني/2005 م
http://www.alokab.com/speeches/detai...d=621_0_13_0_M
رد مع اقتباس