بائع البطاطا
=====
وضعت القدر علي النار ..وأسندت خدها علي كفها،وأخذت تتابع النار التي يخفت ضوءها رويدا رويدا ..غاصت بأفكارها في زوجها الغائب منذ أسبوعين.
تناثرت إشاعات بأنه مقبوض عليه،ولا تعلم ما التهمة التي قبضوا عليه بها .
قال لها أحدهم : ما كان يجب أن يخرج في المظاهرات.
ندبت علي خدها ،وقالت باندهاش:مظاهرات!!
أجاباها :خرج مع الناس يندد بالرئيس..
لطمت بقوة مرة أخري علي خدها:لا علاقة لزوجي بالمظاهرات.. لا برئيس الجمهورية ولاغيره..زوجي بائع بطاطا ..لا يعرف المظاهرات..
أخذت تقسم لهم بأن زوجها لا علاقة له بذلك،ولقد أخبرها بأنه يذهب إلي الميدان المذدحم بالناس ليبيع بطاطته حيث الرزق الكثير..ولم يفكر سوي في رزق أولاده.
سمعت بعض النساء يتهامسون ويتغامزون:هذا جزاؤه من يبيع نفسه من أجل جنيهات..
وسمعت أخري ترد عليهن: حالتهم سيئة والجنيهات تنفعهم..
كادت تنفجر ..نحن صحيح فقراء،لكن لا نبيع أنفسنا من أجل المال..زوجي عزيز النفس وكريمها و لا يقبل أبدا أن يتنازل عن كرامته..يخرج بعربته،ويبيع منها ما يستطيع،ثم يعود لينعم معها وأولادها بما منّ الله عليه من قليل المال ..
ودائما ما كان يقول:البركة في القليل.
كانت السعادة ترفنا ،ولم نشتك يوما من وعرة الدنيا وقسوتها..ولم نمد يدنا لأحد تذللا،
ودائما زوجي يحرص مع أولادي في تربيتهم علي ذلك..
دندنت مع نفسها:حتي الكلمة الطيبة لا نلاقيها نحن البسطاء..
أوشكت النار علي الخفوت نهائيا..حركتها ووضعت بعض العيدان التي أعادت لها حياتها،وجذوتها..
تأملت بعينين واهنتين أولادها المستلقين في نوم عميق علي صلابة أرض الحجرة النتنة الرائحة..
جاهدت خلال الأيام الماضية في البحث عن زوجها بين أقسام الشرطة المختلفة؛لكنها فشلت وعادت في كل مرة دون أن تحصل علي إجابة تشفي نيران صدرها المشتعلة.
جاءها أحد جيرانها ،وقال لها بأنه محبوس في السجن الكبير،ودلها علي عنوانه..
لم تنم حتى أخذت أكبر أبنائها في يدها،وذهبت تبحث عنه في السجن الكبير.وبعد عناء طويل وصلت إليه،غير أن رجاءها خاب حين لم تجد أسمه بين المحبوسين.
شعرت باليأس يدب بين أوصال جسدها،وهي التي لم تعرف غير الصلابة والجلد.
عادت بولدها مستسلمة،ولم تعد تسأل بعد ذلك.
جلست حبيسة حجرتها تدعو ربها في صمت أن يدلها علي مكان زوجها.
استيقظ أولادها،وقالوا بصوت واحد:جائعون!
نظرت إلي القدر التي نضج طعامها،فوضعت لهم طعامها،وانشغلت هي بأحزانها.
أخذوا يمضغون الطعام الصلب بحنق،فيما واصلت هي الغرق في أفكارها..
باغتها صوت طرقات الباب،فهبت واقفة ،واندفعت نحوه وفتحته دون أن تنتبه لوضع غطاء شعرها.
بلهفة ودون انتظار سألت القادم:خير!!
نظر إلي الأرض،وقال بصوت حزين:وجدوا زوجك!
بلهفة،صرخت:أين؟!!
صمت برهة،ثم أجابها :في المستشفي.
ضربت علي صدرها:مستشفي!
تابع :أصابته رصاصة في رأسه..
وقبل أن تصرخ أو تسأل،أضاف:والبقاء لله!