[SIZE="5"]راقني المشهد وتلذذتُ به.. فهذه المرة الأولى التي أرى فيها دمائي .. هذا أول جرح لي وأول وجع .
كم هو مُؤلم ولذيذ .. لم يشغلني عن معايشته فزعُ الجثة التي بجواري .
هي سيدة شقراء في العقد الرابع في كامل زينتها وكامل صدمتها بيدها تقبِضُ مثلى على مفاتيح سيارة فخمة يغلب عليها اللون الأسود .
أرادت القطعة الخرسانية الضخمة رأسَهَا كله فأخطأت وأصابت بعْضَه ليبقى الآخرُ شاهداً على فلسفة الحياة .
شطر جميل وشطر مشوه .. شعر أصفر فاقع مبتهج ومقبل على الحياة.. وشطر منه قاتم معتم حالك السواد .. امتزج بالأسمنت والحديد المسلح فصار جحيما ً .
ليجذبَ القدَرُ الجسدَ كله من هذا الشطر من شعر الرأس إلى مشوار طويل غامض خلف أسوارنا العالية .
حياة وموت.. جميل وقبيح.. نقى ومشوه.. أصفر وأسود.. وهل كانت روحها جميلة كجسدها.. أم جسد رائع مركب على روح قبيح .. تساءلتُ ؟
وهل زاملتنى منذ زمن بعيد تلك المرأة الجذابة فى الكراج دون أن تعرفنى أو أعرفها ، وهل فى ظلمة أخرى سنتزامل ؟
ظلمة وضيق أسْفلَ الأرض داخل الكراج.. ورحْبَة ونُور وانطلاق خارجه .
استغرقتنى التناقضات وأنا مصاب في ذراعي ممدد بجوار الجثة المجهولة .. في وقت كنت قد اتخذتُ قراري ألا أعود إلى الوراء وألا أمر كعادتي بلا مبالاة بجوار الحدث .
قررتُ أن أسير في درب الحكاية لآخره لأكتشف سر اللغز.. ولأسْتقصِى مزيدا ً من التناقضات بعد أن استهْوتْنى المغامرة .
لم أجد صعوبة في النهوض وتخليص ثيابي من حديد القطعة الخرسانية الصدئ الناتئ.. والتقطتُ صورة سريعة للرأس بشقيه وصورة مقربة للوجه بشطرية .
ووضعتُ محفظتي وبها أوراقي الثُبوتية وبعض الأموال ومفاتيح سيارتي بجوار الجثة .. وأسرعتُ متخفيا ً قبل وصول سيارات الشرطة والإسعاف التي وصل صوتها المتقطع لأذني من بعيد .
وأنا سعيد وفخور بمشهد دمائي التي صَبَغتْ الجزء الأيمن من قميصي الأبيض باللون الأحمر.. فصارَ له لونان .
الفرصة مواتية لاختبار مشاعر زوجتي - أستهدف المشاعر الحقيقية - .. ستصلُها الأخبار وسأكونُ هناك على مقربة من ردود أفعالها وانفعالاتها دون أن تراني .
هي تشجع الزمالك وأميلُ أنا للتعاطف مع الأهلي .. وأُبالغ أنا في إظهار مشاعري وأُلح على التودد والتصريح بحبي وغيرتي وهى كتومة .
كصنبوري مياه في مطبخنا أحدهما هَلَك من كثرة استخدامه .. والآخر ضنين يمنحنا المياه قطرة قطرة لذا أهملناه .
أُمطرها بالحب وعباراته وهداياه تُمرضني وتُصيبني بحمى الوجد وتحقنني بالمسكنات وتجبرني على النوم مبكرا ً على عتبة غرفة المشاعر والأحاسيس .. ولا تعطيني من مشاعرها إلا بالقطارة .
دمائي تنزف بغزارة ولا أريد أن تتوقف.. أريدها أن تجف تماما ً لتَتَقَلَصَ إمدادات العاطفة داخلي.. وأصبح أنا وهى في عُرْى المشاعر ونُضوب الإحساس سواءً بسواء .
أغلقتُ تليفوني .. ستصلها الأخبار .. وسأتوقف مُتلصِصَاً لمتابعتها في تلفزيونات الشوارع والميادين والمقاهي .
يعرفني الناس.. كان هذا هو المهم لدى.. لكن هل يحبونني ؟
يُردد خبر اختفائي أحد الجرسونات بلا مبالاة ويتلقاه بعض الزبائن بشماتة ظاهرة .
ضحكتُ من أحدهم الذي قال .. يُمْهل ولا يُهمِل.. لكن أين اختفتْ جثتُه العفنة !
تتحدث احداهن عن علاقة حميمة جمعتنى بصاحبة الجثة المجهولة .
يبحثون في احتمالات الموت أكثر من احتمالات الحياة .. لكن عن أي شيء أبحثُ هنا ؟
عن التعاطف .. عن الشفقة .. عن الحب .. عن المواساة ؟
أشياء لم أبحث عنها منذ وضعتُ القلم بين أصابعي وبدأتُ أكتب .
الأضواء والشهرة والمال .. وليس الحب والتعاطف هو ما بحثتُ عنه في الصحف ودنيا الشهرة والأضواء والفضائيات .
ما أروعني اليوم بلا هُوية ولا توجه سياسي ولا ملامح حزبية ولا طمع في منصب ولا فكرة لمقال أتمَلقُ فيه زعيماً أو حزبا ً .
ما أجملني بلا سيارة ولا نظارة ولا مفاتيح ضخمة ولا حواجز بيني وبين الناس .
تركتُ كل شيء في كراج شطره مُضيء وشطْرُه مُظلم.. بجوار جثة شطرها صحيح وشطرها مُشَوه .
أسير مستخِفا ً بما مضى كأنني أُلقيه قطعة قطعة في الشارع على أعين الناس.. ودمائي تشعرني أنني حي أستطيع اكتشاف نفسي ومَنْ حولي واستعادة توازني وتصحيح مساري والانطلاق بدماء جديدة وروح جديدة .
قررتُ المواصلة وعدم العودة.. لا أدْرى كيف كنتُ الإنسان الذي كُنْتُه .. فماذا عن عمودي في الصباح؟
وماذا عن صحيفتي بدوني؟
وزملائى وزميلاتى الأنيقات ؟
سأنتظر قلمي كقارئ وناقد للمرة الأولى .. وسأختبر تعاطف .. صحيفتي.. وزملائي وزميلاتى مع مأساة غيابي والقلق على حياتي .
تسللتُ عبر حديقة المنزل.. ومنها إلى غرفة ابني عبر باب الشُرْفة.. وقبل أن يدخلها حَذِراً وهو يشرع للحديث في هاتفه كنتُ أنا تحت السرير .
أستمع إلى حديثه إلى حبيبته التي لم أسمع بها قبل اليوم.. يخبرها أنه يحبني ويفتقدني ولا يقدر على الاستغناء عنى .. مشاعر لم تكتشفني ولم تعْثُر على إلا وأنا مختبئ تحتَ سريره .
من شرفة أخرى تسللتُ وكانت هي بهدوئها المعهود تتابع الأخبار.. صامتة رصينة كعادتها .
من خلال شعرها الأسود رأيتُ دماء الجنود على الحدود وقرأتُ للمرة الأولى الحقد المرسوم على وجوه القادة الإسرائيليين .
غطى حديثها عبر التليفون على صوت مذيع النشرة .
كان حديثها مختلفاً.. وللمرة الأولى أكتشف حسها السياسي وقدرتها على تحليل الأحداث .. بعمق أذهلنى .
تناولتْ القضية من وجهة نظر مخالفة لوجهة نظري وذَكَرتْ مبرراتها وشواهدها ومعطياتها من الواقع .
يبدو أنها تتحدث إلى أحد زملائي في الصحيفة .. ويبدو أنها تُملى عليه أفكار عمودي الأخير الذي سُينشر غدا ً .
أكَدَتْ لمن يحادثُها أنني راجعتُ موقفي وغيرتُ قناعاتي وصححتُ مساري السياسي قبل اختفائي مباشرة .
ركضتُ مسرعا ً إلى الكراج بعدَ مرورى على قسم البوليس واستعادة متعلقاتى بعد تدوين افادتى .. كانت هناك بقايا الحادث وظلال المرأة الشقراء ورائحة الدماء وقد رُفعتْ الجثة .. وسيارتانا السوْدَاوتان في وجهة واحدة وعلى خط واحد .
ظللْتُ ساعة أحاول حتى نجحْتُ في زحزحة القطعة الخرسانية.. بعدها صار الطريق مهيئاً لمرور السيارتين إلى خارج الكراج .
تمنيتُ لو كانت معي المرأة الشقراء لتسلك مسارا ً جديدا ً في حياتها.. ولتخرج سيارتها وروحُها إلى النور .
عدتُ من جديد.. تسللتُ عبر الحديقة إلى غرفتنا .
كانت يدُها ممدودة واحتضنتني ابتسامتُها[/SIZE]