دخلت إلى بلدتي في الهزيع الأخير من ليلة قاسية غاب فيها القمر, وانتشر
ضباب كثيف , لم أكن قد رأيت أهلي منذ انشقاقي وانضمامي للجيش الحر .
جئت لاهثا بعد سماعي أخبارعن تعرض بلدتي للقصف لأطمأن عليهم.
رائحة الموت تزكم الأنوف في كل مكان ـ اكتشفت إن شارعنا قد تهدم
بالكامل, فطائرات النظام تقصف المباني بين وقت وآخر,وقفت وسط
ركام وأنقاض ما كان لنا بيتا ,الألم والقلق يكاد يقتلاني.. ترى ما الذي
حدث لزوجتي وأولادي ؟!.. هل استطاعوا الفرار ؟؟ أم هم هنا تحت
الأنقاض ؟؟ ـ أحسست بالدماء تغلي في عروقي .. وأصبحت وكأنني
جمرة نار مشتعلة .. حتى الدموع لم تجد على عينّي سبيلا.ً
وأقسمت أن أنتقم ... لا أعرف كم مر علىّ من وقت عندما أفقت على
صوت مجموعة جنود قادمة,اختبأت بين الأنقاض ـ علمت أنهم جاءوا
ليمشطوا المنطقة بحثاً عن الرجال, يعتقلوا من بقى منهم على قيد الحياة ـ
بقيت في مكمني ـ متحفزاً كالثعبان , متوثباً كالنمر, مترصداً كالقضاء
وعندما سمعت صوت
ابتعاد أقدامهم تتبعتهم بهدوء, وفي نفس اللحظة بركان ثائر في أعماقي
تحركه نار حمراء.ـ يدي مشدودة بعزم على زناد الرشاش الآلي , تنتظر
اللحظة التي أفرغ
فيها مقتي وغضبي وحقدي عليهم, ولكن قبل أن تضغط يدي على الزناد
دوى انفجار هزّ الأرض التي كنا نسير عليها.رأيت أجسادهم تطير في
الهواء ثم تهوي أرضاً. لا .. لا .. قلت بثورة وغضب ـ أنا من سيقتلكم
هرعت صوبهم والنار المشتعلة في صدري يزداد لهيبها.. لا تموتوا قبل
أن أقتلكم أيها الكلاب ـ انطلقت صارخاً في شبه هلوسة قائلا: لن تستطيعوا
الإفلات مني وصلت فشاهدت أول جثة أريد أن أُمثّل بها ـ فوجدت جسداً
شاءهاً فظيعاً يشي بما أنزله الموت بذلك الكيان الآدمي من تقلص والتواء
لم يكن به جرحاً واحداً ومع ذلك كانت أعضاؤه ترسم خطوطا غريبة
مروعة ومرعبة وكأنما ترك الموت الصاعق على الوجه كله بقية من
صرخة رعب هائلة, صرخة كان فيها من الرعب ضراعة لم تجد عند
الموت رحمة ولا مغفرة.
هدأت المشاعر المحتدمة في نفسي فجأة .. ووقفت أتأمل جثة الرجل
ووجهه المسود المتقلص, وكأنه قد غاص في محنة من عذاب كأنه
القصاص ـ وقد انسلت من بدنه على هول من الشوك سوف يدفن معه,
وسوف يلقاه القبر وعلى وجهه تلك الخطوط المتشنجة المروعة التي
طبعها الانفعال الأخير الذي عصف به وهو عند تلك اللحظة بين الحياة
والموت , وكأنه قد تبّوأ مكانه من النار.
سكن قلبي وسكنت تلك الرغبة المميتة بالانتقام وأيقنت أن ما أمامي الآن
ليس سوى جيفة كلب لا تثير فيّ سوى الاستفظاع , قفلت عائدا وقد هتفت
أعماقي .. هو المنتقم الجبار.
.