تسربت إلى أنفه رائحة مطهر قوي اختلطت بعقاقير مختلفة, رفع جفنين ثقيلين بصعوبة , ثم أخذ يحملق .. لم يستطع أن يحدد أين هو , فالمكان غريب عليه تماماً حاول أن ينهض فلم يستجب له أي عضو من أعضائه.
سمع فجأة صوتاً نسائيا يقول: حمداً لله على سلامتك. اتجه ببصره نحو الصوت فرأى وجها رقيقا ذا تاج أبيض ـ أنكر صوته عندما حاول أن يتكلم, فقد خيل إليه أنه صوت رجل آخر, خافتاً متحشرجاً.. قال: أين أنا؟
قالت مبتسمة : لقد كدت أن تكون في خبر كان , ولكن الله سلم فنجوت بأعجوبة من ذلك الحادث الفظيع.
اصطدمت كلمة حادث بذاكرته فأحدثت فيه ألماً هائلاً, أغمض عينيه بقوة محاولا إبعاد تلك اللحظات الرهيبة ـ كان ذاهباً ليلقاها.. ضربات قلبه كانت سريعة متلاحقة, سعادة طاغية سيطرت عليه جعلته ينطلق بالسيارة بأقصى سرعة, وكأنما كان يريد أن يتخطى ذلك الصراع المعتمل بصدره, والذي جعله مبلبل الذهن مشوش التفكير. وعند منعطف قوي حاول اجتياز سيارة أمامه فإذ به ينتابه ذعر مفاجئ, فقد كانت في الاتجاه المقابل سيارة نقل كبيرة مسرعة في اتجاهه. شلّ تفكيره تماما فلم يستطع تفاديها فأحدث ارتطامه بها دوياً مروعاً.
كانت الذكرى أصعب من أن يتحملها فراح في غيبوبة ـ لم يدر كم من الزمن مضى عليه عندما أحس بحرارة جعلت انفاسه تختنق, وبصدره يضيق , فتح عينيه فوجد الغرفة تسبح في ضباب كثيف .. قال لنفسه: تأخرت كثيراً .. إنها تنتظرني.
نهض مسرعاً من فراشه , وجد سيارته تنتظره, ومفتاح القيادة في يده , ركب سيارته وانطلق.
يا ألهي .. كيف أعرف لي طريقا مع هذا السياج الكثيف من الضباب .. أجاب في تصميم.. لن يمنعني شيئاً عن الوصول إليها ـ تراءت له صورتها في مخيلته, ارتعش قلبه, انتفض كطائر يريد أن يحلق , زادت ضرباته وتعالت حتى أحس به يكاد أن ينخلع من صدره ـ سيطرت عليه سعادة غامرة .
لقد أحبها من اللقاء الأول , منذ أن دخلت المكتب لأول مرة كموظفة جديدة , رفع عينيه ليرى عينين ناعستين, أنوثة طاغية وجمال فتان, فخفق قلبه يومها بشدة وغاص في هاوية عميقة من صدره , وانقلب رأسا على عقب. كأنما كان يعيش على ضفاف ماء آسن فإذا بحجر يلقى فيه فجأة.
وإذا برياح عاصفة تقتلعه من جذوره , فلم يعد من يومها يذق طعم الهدوء الكثيف الذي عاش على أهابه دهراً طويلاً قانعاً مطمئناً.
كان يحسب نفسه سعيداً بواحة صغيرة لا تعرف سماؤها عاصفاتِ الرياحِ , فإذ به يجد كل السعادة في تلك الرعشة التي تنتاب قلبه , وتهزه بعنف كلما رآها.
قال: اليوم سأصارحها بمشاعري وحبي.. ترددت كثيراً قبل هذا , ربما منعتني نظرة شك وعتاب صامتين في عيني زوجتي , وسؤال حائر لم تنطق به الشفتان بل سألته عيناها, فهربت عيناي خوفاً على سري الدفين.
ـ آه .. تبا لذلك الضباب اللعين , وطريقا غير واضحة المعالم.. ولكنه بكل عناد وإصرار مشى في طريقه.
اعترض طريقه فجأة أشباح لوجوه لا تتضح ملامحها تقف في عرض الطريق ـ ضغط على بوق السيارة وصاح بكل قوته .. ابتعدوا عن طريقي ..
لكنهم لم يستجيبوا .. كبح سرعة السيارة وضغط على الفرامل بكل قوته وهو يصرخ.. ابتعدوا. ظلت السيارة رغما عنه مندفعة بأقصى سرعة حتى اصطدمت بجسم ثم توقفت تماما.
نزل مسرعا هلعا ينظر : ما الذي حدث ؟؟ ارتسمت كل إمارات الرعب على وجهه فقد كان الجسد المسجى أمام سيارته هو جسد ابنته , اختلج بدنها وشهقت شهقة مخنوقة, ومزقت صدرها آه حارقة , ثم سكنت تماما.
صاح الشبحان الآخران وقد تبين فيهما صوت ولديه: قتلتها؟؟
صاح فزعا : لا
رددا : قتلتها !!
قال منتحباً : لماذا اعترضتم طريقي؟؟
قالا : هو طريقنا .. أنت تريد قتلنا جميعا
تناثرت دموعه ـ اغتسل وجهه بها قال: يا لبؤسي وشقائي ـ تناول سكينا حادا وبدون أي تفكير قطع شريان يده اليمنى, وسقط بجوار ابنته بينما سال الدم خيطا طويلا من يده, وصراخ زوجته يأتيه من بعيد : أحمد .. أحمد
ـ أحمد .. أحمد .. مازال صوت زوجته يناديه , ترى أيسمع الموتى , أم أنه مازال حيا. فتح عينيه فإذ بها تصطدم بسقف ذات الغرفة ذات الجدران البيضاء, وإذ بزوجته تقف إلى جواره شاحبة ـ حمراء العينين ـ قلقة ـ مبللة الأهداب , يبدو الإعياء في أعماق عينيها. نظر ليده اليمنى فوجدها ممددة بجواره, لم يكن بها أثر لدماء, وإنما هي إبرة التغذية معلقة بها.
كانت أنفاثة تلهث والماء يغطي صدغيه وجبينه ـ بذل مجهودا خارقا ليقول في شبه همس : أقتلت ابنتي ؟؟
ـ ارتسم على وجهها شبه ابتسامة وأجابت في حنان دافق : وما دخل ابنتك؟ لقد كنت وحيدا في السيارة. اطمأن أيها الحبيب .. ستكون بخير إن شاء الله , فقط هي بعض الرضوض والكدمات ـ لقد نجوت بأعجوبة والحمد لله.
همس ثانية ليؤكد لنفسه .. لم تصطدم بها السيارة ؟؟
أجابت غير مدركة لما يرمي إليه .. فدتك ألف سيارة يا غالي , لقد حطمتها الشاحنة تماما ـ نحمد الله على نجاتك, وعودتك لي ولأولادك بالسلامة.
قال بلهفة: أولادي ؟ أين هم ؟ أريد أن أراهم. فتحت الزوجة باب الغرفة فهرع إليه أولاده الثلاثة ـ احتواهم جميعا بيده الواحدة , ولثم وجه ابنته في حنان, واختلطت دموعه بدموعهم.
سعادة غامرة شملتهم جميعا ـ فلم يلق بالا لتلك الغصة التي اعتصرت قلبه , كان يعلم أن هناك نبضة زائدة داخله كانت تحتضر وتموت.