تحت شجرة اللّوز
تناولت العجوز حفنة من التّراب قبّلتها وأعادتها إلى مكانها، ثمّ ألقت بجسدها المنهك على جذع الشّجرة الشّامخة في أحد المرتفعات النّائية، بعد أن سقته دموع عينيها وماء إبريق الفخّار العتيق... مدّت نظرها نحو الأفق البعيد، تنهّدت وراحت ترفل بفكرها في دروب ما مضى، فيما بعض الأفراد يراقبون عن بعد ما مارسته من طقس اعتادته منذ أربعين سنة.
كان يوما جميلا حين عاد خالد لزيارتنا من البلدة التي يعمل بها مدرّسا، حيث سطر الفرح حروفه على صفحة وجهه، وداعبت نسمات السّرور خصلات شعره، وأضاء نور السّعادة بريق عينيه وهو يزفّ لي بشرى حبّه لإحدى المعلّمات . لقد خلبت لبّه وقال فيها أشعارا قرأها لي، فطلبتُ منه عدم قراءتها على مسامع أخواته اليافعات.
أسعدني أنّ ابني قد سوّر معصمه بأساور كنز جمال الكلمة، إضافة لكنز الهيئة المميّزة.
سألتُهُ في إحدى السّهرات الشّتويّة، ونحن نتشارك التّدفئة باللّحاف الصّوفيّ:
متى سنفرح بك يا خالد؟ هيّا أخبر أباك ليدبّر لك الأمور .
ظهرت بعض الخطوط على جبينه وقال بلغة فاترة:
عندما يحين الوقت المناسب.
لمَ التّأخير؟ فالبيت واسع، وبإمكانك تجهيز إحدى غرفه.
تضاحك ووعدني بإخبار والده عندما تهون أموره.
أعادها من بين سطور ذكرياتها صوت خشخشة أجفلها، فحصت المكان فلم تر شيئا، نهضت بتثاقل ومشت نحو بيتها.
اقترب مَن لاذوا،من قبل، خلف سنديانة منتظرين مغادرتها؛ ليمعنوا النّظر ويتفحّصوا تلك البقعة المزيّنة بالورود، والمظلّلة بشجرة اللوز المزهرة.
هي حجارة صفّت ورفعت مترا عن الأرض، سقفها ورود متعدّدة الأنواع أثارت الرّهبة في نفس أحدهم، فأمسك بحفنة من التّراب وقال:
"لاشكّ أنّ هذا قبر وليّ، وإلّا لما اهتمّت هذه العجوز بأمره وقبّلت تربه". سرّوا بهذا الاكتشاف وغادروا متّفقين على العودة.
بُعيد ذلك، يبدو أنّ خبر المقام قد انتشر بين النّاس بسرعة، فصاروا يتوافدون صوبه زرافات ووحدانا...
دخلت العجوز بيتها جاهدة بتسريع خطاها صوب صندوق الملابس الخشبيّ المزركش بالأصداف والنّحاس، والمحتفظة به في غرفة محايدة، فتحته وأخرجت قميصا أبيض اللّون، تأمّلته وشمّته وهي تحتضنه. كيف لا وصاحبه الأستاذ الناجح، ذو الوجه الجميل والعينين السّاحرتين، وشعره الأسود النّاعم قد جعلوا الصّبايا يكسرن حواجز الخجل، وينظرن إليه مليّا أثناء مصادفته في الطّريق التّرابيّ الضّيّق عند ذهابه لعمله. هو القميص الغالي الثّمن الذي اشتراه من راتبه الأوّل وأثناء ارتدائه روى لها قصص الإعجاب به... فتعجّبت لجرأة الصّبايا، وشتمتهنّ أمامه، لكنّها أخفت خلف الشّتائم فرحا؛ تباهيا بجمال ابنها الملفت للأنظار، ودعت الله أن يحميه من أعينهنّ الحاسدة...تبسّمت ثمّ طوته وأعادته إلى الصّندوق بعد رشّه بنقطة من عطر المسك.
أفاقت ذات صباح على صوت غريب، شوّش صفاء ذهنها ولحظاتها التّعبديّة، فخرجت مسرعة صوب شجرة اللّوز، ناسية ما أرهقها من أوجاع المفاصل ليلا... انتهرت مجموعة من الرّجال يحملون الكتب ويتمتمون بكلمات لا تفهمها، فلم يعرها أحد اهتماما... صرخت بهم:
ماذا تفعلون هنا؟ اخرجوا من أرضنا حالا وإلّا رشقتكم بهذه الحجارة... أنهوا قراءة تراتيلهم، اقترب أحدهم وسألها ببرود أعصاب: "إيش في يا أجوز؟"
نحن نصلّي مثلك، وأنت تضايقيننا.
تصلّون؟! ولمَ تصلّون هنا أمام بيتي؟
هذا قبر أحد حكمائنا، وجئنا لزيارته.
فصاحت: ويلاه! هذا قبر من؟! الويل لكم هذا قبري أنا.
تضاحك مستهزئا: ما هذه الخرافات؟ ها أنت حيّة وتسببّين لنا المشاكل. نحن أصحاب هذا المكان وسنثبت ملكيّته ... بالمناسبة إذا جئت لتنذري نذرا فسوف نسمح لك هذه المرّة بتعليق ما تريدين على أغصان الشّجرة.
أخرسها الذّهول لحظة، وصعقها رعدُ ما سمعت من كلام، وأحرقها وميض ما اشتعل من انفعال، فلم ترَ سوى وجوه تتمايل، وهامات تطول وتقصر... وصرخت تنادي باسم خالد...
باتت ليلتها ترتجف غيظا، وشفتاها رطبتان باسم خالد، ولم يفارقها طيفه أثناء نوبات سخونتها، ولا وقاحة من تطاولوا عليها...
لبست الطّبيعة أبهى الحلل في ربيع كثرت فيه أزهار شقائق النّعمان، وطغت الحمرة على الألوان ، واستعدّت الأمّ لاستقبال خالد بعد شهر من الغياب لا تدري له سببا.
ومع روعة الجمال، نعب غراب فوق مدخنة البيت فأفسد الأجواء. سمعت الصّوت فانقبض قلبها واصفرّت سحنتها. طلبت من أحد أبنائها أن يخرج لطرده. تضاحك الصبيّ ثمّ لبّى لها الطّلب.
أعدّت الأرزّ المصبوغ بالزّعفران، وغلت اللّبن الرّائب جيّدا؛ لأنّ خالدا يحبّه هكذا...
مرّ وقت الظّهيرة ولم يصل، وكلّما سمعت صوت هدير سيّارة هرعت نحو الباب، وإن لم يكن هو ضربت بكفّ اليأس والقلق دفّة الباب وراحت تبتهل إلى الله أن يجعل تأخّره لخير، فقد أخبرهم جارهم بعد مهاتفته أنّ عودته ستكون ظهرا.
مالت الشّمس للغروب، وبدأت الشّقائق بإغماض أعينها، وإذ بسيّارة شرطة يترجّل منها أحد أفرادها سائلا عن الأب. اعتقلها الوجوم هنيهة، ثمّ تحرّرت وراحت تهرول في البيت؛ لاطمة خدّيها تارة، وضاربة رجليها أخرى.. منتظرة خروج الشّرطيّ لمعرفة بغيته.
هل أنت والد المدعو خالد؟ لقد وُجد في مدخل القرية مضرّجا بدمائه، فنقل إلى المستشفى وقبل أن يصل توفّي. وقّعْ لي على ورقة الإبلاغ.
تعالت الصّيحات، واهتزّت جدران البيت مردّدة صدى نداءات الأمّ، فأتاها محمولا على الأكتاف. زغردت وأقسمت على النّسوة أن يغنّين للعريس العاشق الذي حذّرته من عواقب حبّه لفتاة من غير دينه. وها قد حصل ما خافت منه.
آه! إنّه سبت ربيعيّ كيوم دفن ابني...اليوم سأزرع له سنديانة لأنّي أخشى أن ينخر السّوس جذع اللّوزة – وإن عُمّرت - مثلما زعم (أبو قاسم) في حديثه عن اللّوزيّات.. فجأة وأثناء محاولتها جاهدة نبش التّربة الرّطبة جانب القبر، عاد الأغراب مؤزّرين بمجموعة أخرى، استجمعت قواها وتحوّلت حرارة الحمّى إلى طاقة هجوميّة صارخة بهم:
ابتعدوا عن قبر ابني وعن الشّجرة التي رويتها بدموع عينيّ مذ غرستها وسمّيتها باسمه... ابتعدوا وإلّا ... وقبل أن تكمل جملتها وقعت جانب القبر بلا حراك، وتسمّرت عيناها بأعالي أغصان شجرة اللّوز الباسقة.