أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 25

الموضوع: تحت شجرة اللّوز

  1. #1
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي تحت شجرة اللّوز

    تحت شجرة اللّوز

    تناولت العجوز حفنة من التّراب قبّلتها وأعادتها إلى مكانها، ثمّ ألقت بجسدها المنهك على جذع الشّجرة الشّامخة في أحد المرتفعات النّائية، بعد أن سقته دموع عينيها وماء إبريق الفخّار العتيق... مدّت نظرها نحو الأفق البعيد، تنهّدت وراحت ترفل بفكرها في دروب ما مضى، فيما بعض الأفراد يراقبون عن بعد ما مارسته من طقس اعتادته منذ أربعين سنة.
    كان يوما جميلا حين عاد خالد لزيارتنا من البلدة التي يعمل بها مدرّسا، حيث سطر الفرح حروفه على صفحة وجهه، وداعبت نسمات السّرور خصلات شعره، وأضاء نور السّعادة بريق عينيه وهو يزفّ لي بشرى حبّه لإحدى المعلّمات . لقد خلبت لبّه وقال فيها أشعارا قرأها لي، فطلبتُ منه عدم قراءتها على مسامع أخواته اليافعات.
    أسعدني أنّ ابني قد سوّر معصمه بأساور كنز جمال الكلمة، إضافة لكنز الهيئة المميّزة.
    سألتُهُ في إحدى السّهرات الشّتويّة، ونحن نتشارك التّدفئة باللّحاف الصّوفيّ:
    متى سنفرح بك يا خالد؟ هيّا أخبر أباك ليدبّر لك الأمور .
    ظهرت بعض الخطوط على جبينه وقال بلغة فاترة:
    عندما يحين الوقت المناسب.
    لمَ التّأخير؟ فالبيت واسع، وبإمكانك تجهيز إحدى غرفه.
    تضاحك ووعدني بإخبار والده عندما تهون أموره.
    أعادها من بين سطور ذكرياتها صوت خشخشة أجفلها، فحصت المكان فلم تر شيئا، نهضت بتثاقل ومشت نحو بيتها.
    اقترب مَن لاذوا،من قبل، خلف سنديانة منتظرين مغادرتها؛ ليمعنوا النّظر ويتفحّصوا تلك البقعة المزيّنة بالورود، والمظلّلة بشجرة اللوز المزهرة.
    هي حجارة صفّت ورفعت مترا عن الأرض، سقفها ورود متعدّدة الأنواع أثارت الرّهبة في نفس أحدهم، فأمسك بحفنة من التّراب وقال:
    "لاشكّ أنّ هذا قبر وليّ، وإلّا لما اهتمّت هذه العجوز بأمره وقبّلت تربه". سرّوا بهذا الاكتشاف وغادروا متّفقين على العودة.
    بُعيد ذلك، يبدو أنّ خبر المقام قد انتشر بين النّاس بسرعة، فصاروا يتوافدون صوبه زرافات ووحدانا...
    دخلت العجوز بيتها جاهدة بتسريع خطاها صوب صندوق الملابس الخشبيّ المزركش بالأصداف والنّحاس، والمحتفظة به في غرفة محايدة، فتحته وأخرجت قميصا أبيض اللّون، تأمّلته وشمّته وهي تحتضنه. كيف لا وصاحبه الأستاذ الناجح، ذو الوجه الجميل والعينين السّاحرتين، وشعره الأسود النّاعم قد جعلوا الصّبايا يكسرن حواجز الخجل، وينظرن إليه مليّا أثناء مصادفته في الطّريق التّرابيّ الضّيّق عند ذهابه لعمله. هو القميص الغالي الثّمن الذي اشتراه من راتبه الأوّل وأثناء ارتدائه روى لها قصص الإعجاب به... فتعجّبت لجرأة الصّبايا، وشتمتهنّ أمامه، لكنّها أخفت خلف الشّتائم فرحا؛ تباهيا بجمال ابنها الملفت للأنظار، ودعت الله أن يحميه من أعينهنّ الحاسدة...تبسّمت ثمّ طوته وأعادته إلى الصّندوق بعد رشّه بنقطة من عطر المسك.
    أفاقت ذات صباح على صوت غريب، شوّش صفاء ذهنها ولحظاتها التّعبديّة، فخرجت مسرعة صوب شجرة اللّوز، ناسية ما أرهقها من أوجاع المفاصل ليلا... انتهرت مجموعة من الرّجال يحملون الكتب ويتمتمون بكلمات لا تفهمها، فلم يعرها أحد اهتماما... صرخت بهم:
    ماذا تفعلون هنا؟ اخرجوا من أرضنا حالا وإلّا رشقتكم بهذه الحجارة... أنهوا قراءة تراتيلهم، اقترب أحدهم وسألها ببرود أعصاب: "إيش في يا أجوز؟"
    نحن نصلّي مثلك، وأنت تضايقيننا.
    تصلّون؟! ولمَ تصلّون هنا أمام بيتي؟
    هذا قبر أحد حكمائنا، وجئنا لزيارته.
    فصاحت: ويلاه! هذا قبر من؟! الويل لكم هذا قبري أنا.
    تضاحك مستهزئا: ما هذه الخرافات؟ ها أنت حيّة وتسببّين لنا المشاكل. نحن أصحاب هذا المكان وسنثبت ملكيّته ... بالمناسبة إذا جئت لتنذري نذرا فسوف نسمح لك هذه المرّة بتعليق ما تريدين على أغصان الشّجرة.
    أخرسها الذّهول لحظة، وصعقها رعدُ ما سمعت من كلام، وأحرقها وميض ما اشتعل من انفعال، فلم ترَ سوى وجوه تتمايل، وهامات تطول وتقصر... وصرخت تنادي باسم خالد...
    باتت ليلتها ترتجف غيظا، وشفتاها رطبتان باسم خالد، ولم يفارقها طيفه أثناء نوبات سخونتها، ولا وقاحة من تطاولوا عليها...

    لبست الطّبيعة أبهى الحلل في ربيع كثرت فيه أزهار شقائق النّعمان، وطغت الحمرة على الألوان ، واستعدّت الأمّ لاستقبال خالد بعد شهر من الغياب لا تدري له سببا.
    ومع روعة الجمال، نعب غراب فوق مدخنة البيت فأفسد الأجواء. سمعت الصّوت فانقبض قلبها واصفرّت سحنتها. طلبت من أحد أبنائها أن يخرج لطرده. تضاحك الصبيّ ثمّ لبّى لها الطّلب.
    أعدّت الأرزّ المصبوغ بالزّعفران، وغلت اللّبن الرّائب جيّدا؛ لأنّ خالدا يحبّه هكذا...
    مرّ وقت الظّهيرة ولم يصل، وكلّما سمعت صوت هدير سيّارة هرعت نحو الباب، وإن لم يكن هو ضربت بكفّ اليأس والقلق دفّة الباب وراحت تبتهل إلى الله أن يجعل تأخّره لخير، فقد أخبرهم جارهم بعد مهاتفته أنّ عودته ستكون ظهرا.
    مالت الشّمس للغروب، وبدأت الشّقائق بإغماض أعينها، وإذ بسيّارة شرطة يترجّل منها أحد أفرادها سائلا عن الأب. اعتقلها الوجوم هنيهة، ثمّ تحرّرت وراحت تهرول في البيت؛ لاطمة خدّيها تارة، وضاربة رجليها أخرى.. منتظرة خروج الشّرطيّ لمعرفة بغيته.
    هل أنت والد المدعو خالد؟ لقد وُجد في مدخل القرية مضرّجا بدمائه، فنقل إلى المستشفى وقبل أن يصل توفّي. وقّعْ لي على ورقة الإبلاغ.
    تعالت الصّيحات، واهتزّت جدران البيت مردّدة صدى نداءات الأمّ، فأتاها محمولا على الأكتاف. زغردت وأقسمت على النّسوة أن يغنّين للعريس العاشق الذي حذّرته من عواقب حبّه لفتاة من غير دينه. وها قد حصل ما خافت منه.

    آه! إنّه سبت ربيعيّ كيوم دفن ابني...اليوم سأزرع له سنديانة لأنّي أخشى أن ينخر السّوس جذع اللّوزة – وإن عُمّرت - مثلما زعم (أبو قاسم) في حديثه عن اللّوزيّات.. فجأة وأثناء محاولتها جاهدة نبش التّربة الرّطبة جانب القبر، عاد الأغراب مؤزّرين بمجموعة أخرى، استجمعت قواها وتحوّلت حرارة الحمّى إلى طاقة هجوميّة صارخة بهم:
    ابتعدوا عن قبر ابني وعن الشّجرة التي رويتها بدموع عينيّ مذ غرستها وسمّيتها باسمه... ابتعدوا وإلّا ... وقبل أن تكمل جملتها وقعت جانب القبر بلا حراك، وتسمّرت عيناها بأعالي أغصان شجرة اللّوز الباسقة.
    التعديل الأخير تم بواسطة كاملة بدارنه ; 14-03-2014 الساعة 07:07 PM

  2. #2
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    الأخت الفاضلة الأديبة كاملة بدارنة
    " تحت شجرة اللوز " , عمل قصي ناجح بامتياز , يرسم صورة للمعاناة الانسانية , داخل الأرض السليبة , بتوترات نفسية حاذقة , قوة في السبك , وتدبير عال استجرار القارئ للمتابعة , مع تفوق في الإقناع .
    تقبلي تقديري وإعجابي

    د. محمد حسن السمان

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,156
    المواضيع : 318
    الردود : 21156
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    في كسر للخط الزمني وما بين السرد والإسترجاع تدور أحداث هذه القصة
    لنعيش مع هذه العجوز قصتها ـ وفي كل استرجاع يتكشف لنا جزء جديد من القصة.
    كما تتعرض القصة لأولئك الدجالين ومدعي الكرامات المستغلين لجهل الناس لجعل
    القبور وأضرحة الأولياء مزارات يتكسبوا منها.
    سرد قلمك بارع
    قصة مؤلمة ومشوقة بأحداثها ـ حبكة محكمة وفكرة عميقة وخاتمة مقنعة.
    نصك بديع ، ولأدبك طعم خاص مميز.. فشكراً لك ولقلمك الباهر.

  4. #4
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    سردٌ رائع وتنقل عبر مراحل زمنية في عرض الموضوع.
    أكثر من فكرة عالجها النصّ: التعامل مع الاحتلال فيما يخص التواصل - أياً كان، ثمّ اشارة للخرافة وتمكنها من العقول- والخرافة هي واحدة من الاركان التي قامت عليها فكرة الاحتلال. لكنها قد تحدث في أيّ مجتمع ، وقد تحدث بيننا كمسلمين حينما تحلّ البدعة ويكثر الجهل.
    تقديري للنصّ الجميل.
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  5. #5
    الصورة الرمزية خالد الجريوي قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Sep 2010
    المشاركات : 1,330
    المواضيع : 83
    الردود : 1330
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    ما أجمل أن تكون أديبا متمكنا
    حتى ترسم بحروفك
    صورا مدهشة

    رائعة أستاذة
    حفظ الله قلبك أخيتي

  6. #6
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    المشاركات : 6,061
    المواضيع : 182
    الردود : 6061
    المعدل اليومي : 0.91

    افتراضي

    تعالت الصّيحات، واهتزّت جدران البيت مردّدة صدى نداءات الأمّ، فأتاها محمولا على الأكتاف. زغردت وأقسمت على النّسوة أن يغنّين للعريس العاشق الذي حذّرته من عواقب حبّه لفتاة من ديانة أخرى. وها قد حصل ما خافت منه.

    السلام عليكم
    لقطة مؤلمة تكررت كثيرا بين أفراد شعبنا قديما حديثا في كل الأزمان ,وكل مرّة تراها ساخنة مشتعلة دامية جارحة كأول مرّة ,
    قصة رائعة دُمجت بجمال وذكاء ,فجاءت مثل كعكة شهية بمذاق مر علقمي .
    لا ندري لأي مدى سيظل شعب يعاني كل هذا المرار والدوار ,
    شكرا لك كاملة العزيزة
    ماسة

  7. #7
    الصورة الرمزية رياض شلال المحمدي شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2012
    المشاركات : 6,121
    المواضيع : 239
    الردود : 6121
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    **(( وماذا عساني أقول أمام هذا البهاء ، من صور الماضي التي تعانق الحاضر
    بأحرفٍ من حنينٍ ونقاء ؟ ، مهما أسهبتُ فليس ثمّة سوى نزرٍ يسير ممّا يجود به الثناء ،
    كيما يدنو ولو برهة وعلى استحياء ، ليقول : طوبى لحرفك وما تقصّه علينا سوانحُ الفكر
    من نفحات الذكرى مع اللوز وشقائق النعمان والعريس العاشق ، شكرًا لك أديبتنا القديرة
    على عبق العطاء ، مع كثير تقدير كما يليق ))**

  8. #8
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    لله درك أديبتنا
    للحرف والكلمة والمعنى والسرد والحبكة والنهاية و و و ....

    صدق من قال لكلٍ نصيب من أسمه
    دمت رائعـــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــة
    حبي وكل التقدير

  9. #9
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,787
    المواضيع : 392
    الردود : 23787
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    تحت شجرة اللّوز ... عمل أدبي قصصي ناجح بفكر ثر وسرد قوي مؤثر ومزج بين القديم والحديث وبين الأرض المسلوبة والشعب المقهور وبين العلم وفئة الدجالين والجهال
    وتسلسل ذكي وتصاعد ومفاجآت تتوالى مع قراءة كل فقرة مما جعل النص شائقا ماتعا لايمل أحدنا تكرار قراءته
    بوركت واليراع الفريدة أخت كاملة
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  10. #10
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. محمد حسن السمان مشاهدة المشاركة
    الأخت الفاضلة الأديبة كاملة بدارنة
    " تحت شجرة اللوز " , عمل قصي ناجح بامتياز , يرسم صورة للمعاناة الانسانية , داخل الأرض السليبة , بتوترات نفسية حاذقة , قوة في السبك , وتدبير عال استجرار القارئ للمتابعة , مع تفوق في الإقناع .
    تقبلي تقديري وإعجابي

    د. محمد حسن السمان
    مرورك كريم وشهادة أعتزّ بها أديبنا الدّكتور محمّد
    شكرا لك ولحضورك البهيّ
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. (هل يكتمل اللوز..؟)
    بواسطة عماد أبو لطيف في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 21-12-2022, 06:52 PM
  2. حبــة اللوز
    بواسطة خليل حلاوجي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 40
    آخر مشاركة: 24-01-2014, 03:37 PM
  3. تحت شجرة جرداء ......
    بواسطة عدنان الهلالي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 13-09-2006, 02:11 PM
  4. لمن يبـوح اللوز؟
    بواسطة عزت الطيرى في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 17-03-2006, 10:22 AM
  5. احب ان أقف تحت شجرة الدين وأعبد الله،ولا اقف في صحراء وأعبدشجره الدين
    بواسطة فاطمه عبد القادر في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 12-02-2006, 01:36 AM